كيف تسبب الفطريات المرض لدى الناس(***)
أسفرت البحوث العلمية التي استمرت عدة سنوات عن رسم مخطط أولي يوضح كيف تدخل المستخفية الهرية Cryptococcus gattii أجسامنا، وكيف يمكنها أحيانا أن تصل بالفعل إلى الدماغ عن طريق مجرى الدم. وهي لحسن الحظ لا تنتقل من شخص إلى آخر.
(1) تفضل المستخفية الهرية أن تعيش على أشجار معينة في ڤانكوڤر، ومنها أشجار التنوب (دوگلاس) التي تتوطن في جزيرة ڤانكوڤر، كما تعيش في التربة المحيطة بتلك الأشجار، لتستهلك المواد المتعفنة.
(2) تصيب الفطريات الناس بالعدوى بدخولها في أجهزتهم التنفسية، إما على شكل خلايا خميرية متجففة أو على شكل أبواغ (وهي وحدات أصغر حجما وأصلب قواما، مما يجعلها ملائمة للانتشار). وتستطيع عندها هذه الجسيمات أن تستقر في أكياس هوائية في أعماق الرئتين.
(3) في الرئتين، تنقسم الخلايا الخميرية للمستخفية الهرية وتتكاثر وتصبح لها أغشية سميكة، بل إنها قد تشكل عقيدات. وقد يؤدي هذا الاستعمار إلى سعال وإلى مشكلات تنفسية وغثيان وحمى fever. وقد تبلغ بعض الخلايا طريقها إلى مجرى الدم بامتطاء بعض الخلايا المدعوة بالبلاعم macrophages.
(4) قد تتمكن بعض خلايا الخميرة في الدم من العبور إلى الدماغ إما مباشرة وإما بامتطاء البلاعم مرة أخرى. ويغلب أن تؤدي إصابة الدماغ بالعدوى إلى الموت.
ولم تعط دراسة الحالات والشواهد هذه أي اكتشاف مفيد. كذلك لم يظهر أن أيا من العوامل البيئية، مثل البستنة أو قطع الأشجار أو طمر قشور النباتات في الأرض، قد أدى إلى أية زيادة في خطر إصابة سكان الجزيرة. وقد كانت الإصابات منتشرة على طول الجانب الشرقي من الجزيرة من أقصاه إلى أقصاه دون ظهور منطقة تتركز فيها الإصابات أكثر من غيرها. وأكثر من ذلك هو أن ضحايا الإصابة لم يسافر أي منهم قطُّ حديثا إلى أستراليا أو إلى أي منطقة بعيدة يحتمل أنهم حملوا الفطريات منها.
وهكذا أصيب الباحثون بالإحباط، واستمرت خيبة أملهم لمدة ستة أشهر، قبل أن تنتهي بظهور عدد قليل من المرضى المصابين، ولم يكونوا مقيمين في جزيرة ڤانكوڤر، ولكن سبق لهم أن سافروا إليها. كما أن بعضهم كانوا قد ذهبوا إلى حديقة شاطئ راثتريڤور، فأرسلت إليهم بعثة لأخذ العينات منهم، وفي النهاية أظهر أحد النماذج التي أخذت من شجر التنوب ، وهي فصيلة معروفة في تلك المنطقة، إيجابية اختبار المستخفيات الهرية، وذلك في بداية عام 2002. ولم يكن أحد من أفراد البعثة يتوقع أن يكون هذا الفطر الغريب متخفيا في الأشجار التي تتوطن في تلك المنطقة. وفي النهاية تمكن فريق <بارتليت> من أن يستفرد بـ 57 عينة من المستخفيات الهرية من 24 شجرة في تلك الحديقة، وهي أشجار تنتمي إلى العديد من الأنواع التي تتوطن في المنطقة. وفي نهاية ذلك الصيف تمكنت هذه الباحثة من كشف تلك الفطريات في تربة فيكتوريا وفي هوائها وأشجارها، من أقصى نقطة في جنوب جزيرة ڤانكوڤر وحتى الشاطئ الشرقي لنهر كامب بيل، وكذلك في غرب ووسط الجزيرة، وهي المناطق ذاتها التي عاش فيها معظم سكان جزيرة ڤانكوڤر. ومن المحتمل أن يكون كل فرد منهم قد تعرض أو أنه بالفعل قد تعرض لتلك الفطريات، إلا أنه لم يكن هناك ما يمكن فعله إزاء ذلك.
لا تزال الاختبارات التي تُجرى على هذه المتعضيات غير متوطدة، فهذه المتعضيات تستطيع أن تبقى حية في المياه العذبة، وأن تبقى حية في المياه المالحة، وأن تبقى حية في الهواء، وأن تبقى حية لعدة سنوات في الوحل الملتصق بالأحذية.
أما ما تلا ذلك من أخبار، فقد بعث المزيد من القلق في النفوس. إذ أوضحت البيانات المجمعة ما بين عامي 2002 و2006 أن معدل العدوى في جزيرة ڤانكوڤر كان 27.9 حالة لكل مليون شخص من السكان - وهو أعلى بثلاثة أضعاف ما يشاهد بين البشر المقيمين بالمناطق الشمالية المدارية من أستراليا. وإن السكان في أمريكا الشمالية كانوا سيواجهون بالتأكيد مُمْرضا أشد ضراوة، نظرا لعدم تعرضهم في السابق لهذه الفطريات؛ مما قد يعلل النمط الذي يتسم بأن الفطريات إذا كانت جديدة من حيث قدومها؛ فإن من المحتمل أن عددا قليلا من الناس في المنطقة قد أصيبوا بالعدوى به، وشكلوا مناعة ضده في وقت مبكر من حياتهم، أو ربما لم يصب أحد منهم على الإطلاق. فاختبارات كشف تلك المتعضيات لم تكن قد توطدت بعد. إذ تستطيع هذه الفطريات أن تعيش في المياه العذبة، وفي المياه المالحة أيضا، كما تستطيع أن تبقى حية في الهواء، كما تستطيع أن تبقى حية لعدة سنوات في الوحل الملتصق بالأحذية. وقد أظهرت دراسة موازية أن المستخفيات الهرية آخذة بالتحرك. فقد بدأت الحالات تظهر في أواسط كولومبيا البريطانية في عام 2004 بين أناس لم يسبق لهم أن زاروا جزيرة ڤانكوڤر مطلقا. وقد بينت النماذج الدراسية لهذه المتعضيات أنها تفضل العيش في الأوقات الدافئة من الشتاء، وفي المناطق القليلة الارتفاع، وفي ظروف الجفاف. ويبدو أن المناطق الجنوبية كانت تقدم أرضا خصبة لها. ففي الشهر 2/2006 أتى مريض مسن مصاب بسرطان الدم leukemia ويتعالج بالستيروئيدات steroids الكابتة للمناعة ويعيش في جزر سان جوان الأمريكية والقابعة قبالة شاطئ ولاية واشنطن، أتى إلى طبيبه يشكو من السعال. وأظهرت الصورة الشعاعية للصدر لديه وجود عقيدة تبين أن سببها كان فطريات المستخفيات الهرية. وأظهر تحليل الجينات(12) الذي أجراه <هايتمان> بالتعاون مع <K. مار> [وهي طبيبة وعالمة تعمل في مركز فريد هاتشيسون للسرطان بمدينة سياتل] أن ذلك الفطر لا يمكن تفريقه عن ذرية الفطريات الموجودة في جزيرة ڤانكوڤر. ومع أن هذا المريض يعيش على بعد بضعة كيلومترات من الشاطئ البحري لكندا، فإنه لم يسافر قط إلى كندا، ولكن الفطر هو الذي أتى إليه.
منذ أن بدأت فطريات المستخفية الهرية بإصابة أناس أصحاء بالعدوى في جزيرة ڤانكوڤر بكولومبيا البريطانية عام 1999، وسعت نطاق الأراضي التي تتوطن فيها باتجاه الشرق نحو أواسط البر الرئيسي، وباتجاه الشمال الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية. ومع نهاية عام 2012، تم الإبلاغ عن 337 حالة في كولومبيا البريطانية، من بينها 197 حالة (ممثلة هنا) أمكن تعرّفها بالاختبارات الجينية. ولا تزال فطريات المستخفية الهرية تهاجم ما يقرب من 25 شخصا في هذه المنطقة في كندا كل عام. كما سببت فطريات المستخفية الهرية أكثر من 100 حالة عدوى موثقة في الشمال الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، لتقتل 25 إلى 30 في المئة من ضحاياه هناك. لقد أظهرت التحاليل الجينية ثلاث ذرارٍ متميزة.
(1) من أين كانت البداية
يبدو أن فطريات المستخفية الهرية VGIIa هي الأكثر انتشارا، وأن الفطريات الثانية التي تليها في الانتشار والأقل ضراوة منها، وهي المستخفية الهرية VGIIb، قد ظهرتا على جزيرة ڤانكوڤر وانتشرتا من هناك. وبحلول عام 2004 نشطت هاتان الذريتان على بر كولومبيا البريطانية، وبحلول عام 2006 وصلتا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
(2) لا يعرف الباحثون كيف وصلت ذرية فطريات المستخفية الهرية VGIIc إلى ولاية واشنطن، فقد تسببت في حالتين من أصل 29 حالة عدوى بفطريات المستخفية الهرية هناك. ومن المحتمل أن يكون هذان الشخصان قد أصيبا بالعدوى حينما كانا مسافريْن إلى أوريگون.
(3) ذرية جديدة تظهر
أول ما ظهرت حالات العدوى بالذرية الثالثة لفطريات المستخفية الهرية VGIIc كانت في أوريگون عام 2005 حيث تشكل الآن 28 حالة من أصل مجموع 84 حالة عدوى بفطريات المستخفية الهرية عند البشر. ويبدو أن فطريات المستخفية الهرية VGIIc تعيش فقط في الجزء الشمالي الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك حسبما تبين من تحليل شمل ما يزيد على 200 حالة عدوى بفطريات المستخفية الهرية على الصعيد العالمي، جمعت عيناتها من قبل اختصاصي الجراثيم <هايتمان> وزملاؤه في جامعة ديوك.
لماذا الآن؟(*****)
مع أن الباحثين قد تحققوا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من أن هناك القليل مما يمكن عمله لإيقاف انتشار فطريات المستخفيات الهرية في شمال أمريكا، فقد تساءلوا مع ذلك عن الوقت الذي مضى على وجود هذه الفطريات في كولومبيا البريطانية وفي الشمال الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، وعن المكان الذي جاءت منه، وعن سبب هذه البداية المفاجئة لإصابة هذا العدد الكبير من المرضى. وقد عثروا على بعض الأدلة بتحليل دنا DNA تلك الفطريات.
لقد أظهر البحث الجيني، وحسبما يقول <هايتمان>، أن هذه الفطريات قد تكون موجودة بجوار جزيرة ڤانكوڤر منذ عدة عقود قبل عام 1999. وقد سميت المتتالية بأحرف مستمدة من «أحرف» الدنا في النمط الرئيسي للمستخفيات الهرية التي اكتشفت مؤخرا في جزيرة ڤانكوڤر بـ VGIIa، وهي مسؤولة عن 90 في المئة من حالات العدوى وبهذه الجزيرة، ولا يمكن تمييز الدنا في أكثر من 30 في المئة من القطع التي جُمِعت عيناتها في جزيرة ڤانكوڤر من الدنا المكتشف في القطع المقابلة في عينات البلغم المأخوذ من مريض مسن كان في سياتل في وقت قريب من عام 1971. ولم تعرف قصة أسفار ذلك الرجل المسن على وجه الدقة، ومن المحتمل أن يكون قد زار جزيرة ڤانكوڤر. وبغض النظر عن ذلك، فإن هذه البينات تشير إلى أن المستخفيات الهرية التي تحمل متتالية الدنا VGIIa كانت موجودة في الساحل الشمالي الغربي المطل على المحيط الهادي لفترة لا تقل عن 40 عاما. وخلال تلك السنوات التي أعقبت تلك الفاشية، اكتشف العلماء أن هناك ضروبا أخرى من فطريات المستخفيات الهرية تتسم بأنها أقل ضراوة، ولم تسبب أية فاشية، ولكنها موجودة في أمريكا الشمالية. وعلى هذا، فمن المحتمل أن المستخفيات الهرية التي تحمل متتالية الدنا VGIIa كانت قد تطورت هناك. لكن من المحتمل أيضا أن تكون فطريات المستخفيات الهرية قد أدخلت من إفريقيا أو أستراليا أو أمريكا الجنوبية، حيث كانت ومازالت توجد وتعيش متوطنة هناك أيضا.
هناك نمط ثان من فطريات المستخفيات الهرية التي تحمل متتالية الدنا VGIIb والتي تأكد الباحثون مؤخرا أنها بدأت تسبب المرض في الوقت نفسه مع المستخفيات الهرية التي تحمل المتتالية VGIIa والتي سببت المرض في جزيرة ڤانكوڤر عام 1999، وكُشِفت فطريات المستخفيات الهرية التي تحمل متتالية الدنا VGIIb في 10 في المئة فقط من المرضى المصابين بالفاشية البدئية(13)، ولا يمكن تفريقها عن إحدى الذراري التي تنتشر حاليا في أستراليا. ومن المحتمل أن تكون قارة أستراليا هي مصدر فطريات المستخفيات الهرية التي تحمل متتالية الدنا VGIIb. وحاليا تحتضن ولاية أوريگون هذين النمطين إلى جانب نمط ثالث هو VGIIc. وقد ظهرت هذه الذرية الأخيرة VGIIcبشكل مفاجئ في ولاية أوريگون عام 2005، ومع ذلك، فإنه من غير المعروف ما إذا كانت نشأت هناك أو في منطقة أخرى غيرها.
إن ما يدعو إلى القلق أن الاختبارات على الفئران في مختبر <هايتمان> بجامعة ديوك أظهرت أن العينات المأخوذة من فطريات المستخفيات الهرية VGIIa و VGIIc، هي الأشد ضراوة من بين جميع أشكال المستخفيات الهرية التي تم اختبارها. وقد أشار هذا الاكتشاف، إلى جانب اكتشافات أخرى لـ <هايتمان> إلى وجود نوع من إنسال جنسي(14) ما بين بعض أنواع غير محددة من المستخفيات الهرية، وهو الذي زاد من ضراوة ذراري فطريات المستخفيات الهرية VGIIa و VGIIc ومنحها تلك الضراوة المتزايدة. فالإنسال الجنسي يحسِّن التنوع ما بين النسل، من خلال مزج دنا الآباء لتكوين توليفات جديدة. ففي الفطريات يولد العمل الجنسي بحد ذاته طفراتmutations يمكنها أن تنتج صفات جينية جديدة. ومن المحتمل أن تكون هذه الاتصالات الجنسية المفترضة لدى الفطريات قد حدثت إما في أمريكا الشمالية أو في المواطن المعروفة بأن المستخفيات الهرية تثوي فيها، في أستراليا أو أمريكا الجنوبية أو إفريقيا، وذلك ببساطة لأن الباحثين لم يكتشفوا بعد الفطريات الآباء.
إضافة إلى ذلك، فإنه من غير المعروف ما إذا كانت ذراري الفطريات التي سببت الفاشيات قد أتت من خارج البلاد، وإذا كان الأمر كذلك، فهل سلكت كل ذرية من تلك الذراري طريقها إلى أمريكا الشمالية وحدها، أم جاءت مجتمعة. يستطيع العلماء تصور عدة سيناريوهات لمجيئها: إذ يمكن اقتراح قدوم ذراري الفطريات عن طريق المستوردات من النباتات أو التربة أو الحيوانات، أو عن طريق هجرتها التي تحملها الرياح أو تيارات المحيطات من مسافات بعيدة. وقد تكون الفطريات قد تعلقت بثقل الموازنة(15) المائية لسفينة ما. ومن المحتمل أن بعض الدلافين المصابة قد قطعت المحيط الهادي وحدها وقذفت تلك الفطريات التي تسبب المرض إلى الأرض، أو تلقفتها بعض الحيوانات التي تعيش على الجيف حينما نفقت الدلافين في المحيط وقذفتها تياراته إلى الشاطئ. كذلك من المحتمل أن الوحل الملتصق بالمراكب أو بالأحذية هو الذي نقل الفطريات إلى أمريكا الشمالية. هذا وإن من المحتمل أن الرحلات التي نقلت هذه الفطريات إلى أمريكا الشمالية قد حدثت قبل 000 10 عام، وقد تكون قد وقعت قبل 43 عاما فقط.
وهناك دليل واحد على الأقل يشير إلى فترة وجود هذه الفطريات في الساحل الشمالي الغربي المطل على المحيط الهادي. فالفطريات التي تبقى في مكان واحد لأمد طويل، تميل إلى أن تتنوع جينيا. فالأنماط الثلاثة للمستخفيات الهرية التي تسبب الفاشيات في المنطقة هي أنماط نسيلية - فجميع هذه الفطريات تنتمي إلى نمط واحد، سواء كانت a أو b أو c، وهي متماثلة تماما جينيا. ويقول <هايتمان>: «لو أنها كانت موجودة قبل 000 100 عام، لكان من المنتظر أن يوجد لها قدر أكبر بكثير من التنوعات بين السكان، وهذا ما لا نشاهده». ويتابع قائلا: «من وجهة نظري هذا هو أهم دليل يشير إلى أن هذه الفطريات قد جلبت إلى المنطقة قبل 50 أو 70 أو مئة عام،» ولكن ليس منذ آلاف السنين.
أما بالنسبة إلى سبب كون فطريات المستخفية الهرية لم تسبب الفاشيات إلا مؤخرا، على الرغم من أنها كانت موجودة بالقرب من المنطقة على مدى لا يقل عن 40 عاما، فهناك احتمال واحد وهو تغير المناخ. فقد ارتفع وسطي معدل الحرارة في جزيرة ڤانكوڤر بمقدار درجة أو درجتين سيلزيتين خلال الأربعين سنة الماضية. كما أن الأعوام 1991 و 1993 و 1994 و 1996 و 1998 قد عانت كلها درجات حرارة تزيد في الصيف على المعدل الوسطي بالنسبة إلى جزيرة ڤانكوڤر. وقد يعود ذلك إلى أن معدلات الحرارة الأكثر دفئا قد سمحت للمتعضيات التي تعيش في المناطق تحت المدارية، والتي كانت بالكاد تقدر على الحياة ذلك الوقت، بأن تحيا وتتكاثر وتترعرع. يقول <كازادڤال>: «بما أن كوكبنا الأرضي يزداد دفئا، فإن الفطريات الموجودة بالفعل والتي تسبب المرض والتي تحب الحرارة قد توسع نطاق وجودها ليصل إلى مناطق كانت سابقا لا ترحب بقدومها.» وفي الواقع لقد وُجِد أن الفطريات التي تسبب المرض للنبات قد تحركت باتجاه القطبين نتيجة لتغير المناخ بمعدل 7.5 كيلومتر كل عام ومنذ عام 1960. وفي الوقت نفسه، فإن المناخات الأكثر حرارة قد تشجع أنواعا أخرى من الفطريات على أن تطور تحملا لدرجات الحرارة الأعلى. فالجينوم المعقد في الفطريات - والذي هو أكبر وأوسع مما لدى البكتيريا والڤيروسات - يعطي المتعضيات التي تتضمنه تشكيلة من الأدوات التي تكفل الاستجابة للكرب stress-response، من أجل أن تتكيف مع الحرارة، وهو أمر تفتقده الڤيروسات والبكتيريا. ومن هنا، فإنه حتى الزيادات الخفيفة في تحمل الحرارة قد تسمح للفطريات التي كانت تتهيأ لتصبح قادرة على التسبب في إحداث المرض بأن تتحمل حرارة أجسامنا العالية وأن تتكاثر، بدلا من أن تموت، عندما تهاجم أجسامنا. وإذا حدث مثل هذه السيناريوهات، فستشكل أخبارا سيئة للبشر، نظرا لأننا نعتمد على حرارة أجسامنا كأحد الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها دفاعنا ضد الفطريات.
وإضافة إلى دفء المناخ، فقد شهدت تسعينات القرن الماضي تطورا متزايدا في الجانب الشرقي من جزيرة ڤانكوڤر. إذ اجتُثت الغابات، ومُدَّت سكك القطارات السريعة، وقُلبت التربة، وبنيت وحدات سكنية جديدة. وتشير <بارتليت> إلى أن ظهور فطريات المستخفيات الهرية كممرض في تلك المنطقة قد نجم عن تصادف وتضافر عدة عوامل: عدة سنين من فصول شتوية أكثر دفئا وفصول صيفية أكثر جفافا، واضطرابات اعترت التربة، وكونها منطقة يألفها كل من السياح المتنقلين(18)، والمتقاعدين الذين هم أكثر عرضة للعدوى من الشباب من بين البشر.
جوانب التقصير البشري:
يجب أن نوجه اللوم إلى أنفسنا إلى حد كبير لوجود هذه المجموعة الحاشدة من الفطريات التي تسبب المرض وتهدد النباتات والحيوانات والبشر، وألاّ نقتصر في اللوم على دورنا الرئيسي في التغير المناخي. فلدى العديد من الفطريات مجال محدد تتوطن فيه، ولكن البشر لم يألوا جهدا في مساعدة هذه الفطريات على أن تفر من تلك المواطن عبر التجارة الدولية. فمن أكبر الاحتمالات أن التجارة هي التي أتت بالعوامل التي سببت فطريات مجاعة البطاطس الإيرلندية في أوروبا، وعفن الكستناء إلى شمالي أمريكا، وداء الفطريات القديرية المعدية لجلد الحيوانات البرمائية في جميع أرجاء العالم. لقد أدى إدماننا على النقل البحري دور تقديم خدمات تزويج الفطريات ببعضها بعضا. فالفطريات في مجموعها كائنات حية عالية الحماس للجنس. وعندما يجمع البشر فطورا مع بعضها بعد أن كانت قبل ذلك منفصلة وبعيدة عن بعضها بعضا جغرافيا، ولكنها قادرة على التزاوج، فإن تزاوجها يمكن أن ينتج منه نماذج جديدة ومتفاوتة وأشد ضراوة، فتتمكن فجأة من أن تصيب الأحياء بالعدوى، وهو أمر لم تكن أسلافها تستطيع فعله، أو يمكنها أن تعيش في بيئات جديدة. إن استمرار حجم التجارة أو تزايدها، سوف يزيد من احتمالات نقل الممرضات إلى أثوياء hosts لم يسبق لهم أن تعرّفوها من قبل، ونشأة نماذج ممرضات جديدة تنتج من تزاوج الفطريات.
ومع أننا لا نقدر إلاّ على فعل القليل جدا من أجل إيقاف انتشار فطريات المستخفيات الهرية، فإن بإمكاننا أن نتخذ خطوات لتقليص احتمال تسابق الفطريات في التكاثر وفي تهديد البشر من السكان المطمئنين والآمنين، وأن نكون جاهزين بشكل أفضل حينما تحصل أية فاشية. وأحد أفضل الأمور التي نبدأ بها هو تحسين ورصد وتشخيص الأمراض التي تسببها الفطريات. هذا ونظرا لأن الأمراض الفطرية غير شائعة ما بين الناس الأصحاء، فقد لا يَطلب الأطباء إجراء الاختبارات لكشفها، وهو ما يؤدي إلى تأخير التشخيص، وإلى ظهور الأعراض المعندة عندما تبدأ المعالجة. وفي الوقت الحالي، تفتقر الأساليب التشخيصية المتوفرة إلى العديد من الفطريات، إما إلى النوعية أو إلى الحساسية أو كلتيهما معا، وقد تكون تكاليفها باهظة أكثر مما تتحمله بعض البلدان الفقيرة. وليس لدى منظمة الصحة العالمية أي برنامج للتعاطي مع عدوى الفطريات، وهناك عدد ضئيل من الوكالات التي تعمل في مجال الصحة العامة تقوم حاليا برصد العدوى بالفطريات، ويجدر ذكر مراكز الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة الأمراض وللوقاية منها.
وهناك خط دفاعي آخر، وهو رفع مستوى الأمان البيولوجي للنباتات والحيوانات. ولأن الممرضات عند البشر غالبا ما تعيش أيضا في التربة وعلى النباتات، فإن زيادة التفتيش على دخول هذه المواد إلى بلادنا بفحص حمولة السفن من المنتجات الزراعية ومن الحيوانات بحثا عن الفطريات المعروفة بأهميتها في إصابة البشر بالممرضات، على سبيل المثال، وبزيادة الانتباه في دوائر جمارك المطارات إلى تنظيف الأحذية الملوثة بالوحل، أو بالحيلولة دون إدخال النباتات عبر السفرات الدولية، لاسيما من بلاد مثل أستراليا ونيوزيلاندا؛ فإن هذا كله سوف لن يقتصر فقط على مكافحة المرض، ولكن للتقليل أيضا من مخاطر الاتصال الجنسي غير العادي بين الفطريات.
وبالإمكان استثمار المزيد من المال في ابتكار أدوية جديدة ومحسنة لمكافحة الفطريات. وتتمثل العقبة الرئيسية في علاقاتنا بالفطريات، فنحن - معشر البشر - من الناحية العملية أولاد أعمام لها من الدرجة الأولى في شجرة الحياة. وقد افترق مسارا الفطريات والحيوانات في حقبة أكثر حداثة عن مجموعات المتعضيات الأخرى جميعها. ولا تقتصر آثار هذه القرابة على جعل الخمائر نماذج models ممتازة لبيولوجيا الثدييات، ولكنها تجعل الخمائر وغيرها من الفطريات أشد صعوبة للمعالجة عندما تغزو الحيوانات وتصيبها بالعدوى. ويقول <هايتمان>: «إن حقيقة أن الفطريات شديدة الصلة والعلاقة بنا يجعل منها مشكلة ضخمة، لأن معظم آليات العمل لديها مشتركة مع آليات العمل لدينا، لذلك، فإن من الأكثر صعوبة أن نجد أهدافا وحيدة وخاصة للأدوية المضادة للفطريات». فالأدوية التي نمتلكها هي غالبا ذات تأثير متوسط في تخفيض الوفيات الناجمة عن المرض الفطري المنتشر، كما أنها قد تحدث آثارا جانبية سامة، أو أنها تتفاعل مع بعض الأدوية الأخرى. ويوجد حاليا القليل من الأدوية المضادة للفطريات في خطوط الإنتاج. وتقدم اللقاحات المضادة للفطور خطا دفاعيا آخر. ولكن القليل منها وَصَل إلى مرحلة التجارب السريرية، وعمليا ليس هناك حاليا أي واحد منها للاستعمال الطبي عند البشر. وتطوير لقاحات مضادة للفطريات سيكون خطة حماية جيدة فيما إذا ساءت الأمور، ويمكن للقاحات أن تساعد الكثيرين منهم المعرضين لخطر متزايد للإصابة بمرض فطري.
إن لقصة فطريات المستخفيات الهرية ختاما يدعو إلى التشاؤم. فالنمطان VGIIa و VGIIb قد انتشرا في ولاية أوريگون، ولكن النمط VGIIc ظهر لأول مرة هناك عام 2005، أي قبل أن يظهر نمطا جزيرة ڤانكوڤر VGIIaو VGIIb في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أظهرت التحاليل الموسعة على عينات من جزيرة ڤانكوڤر أن النمطVGIIc لم يكتشف هناك قطُّ. كذلك بين التحليل الجيني لذرية أوريگون من النمط VGIIc أنه ليس نسلا ناتجا من تزاوج بسيط بين النمطين VGIIa و VGIIb. وتشير هذه الملاحظات إلى أنه لم تكن هناك فاشية واحدة لنمط عالي الضراوة للمستخفيات الهرية في الساحل الشمال الغربي المطل على المحيط الهادي، بل كانت هناك فاشيتان اثنتان.
ويبدو هذا الأمر كما لو كانت هناك فاشية اندلعت ضمن فاشية أخرى، وقد تكون كل فاشية منهما من أصول مستقلة. وقد كتب <هايتمان> في تقريره الذي قدمه مؤخرا إلى معهد الطب «إن الأمر يبدو كما لو أن حصاتين قد رميتا في بركة ماء، وبزمنين مختلفين، الواحدة قبل الأخرى، فشكلتا موجات تشترك في مركز واحد، بحيث تتسع الموجات باتجاه الخارج وتتقاطع فيما بينها.» وبكلمة أخرى، فإن الفاشيتين الحادثتين تقريبا في آن واحد للنمطينVGIIa و VGIIbمن فطريات المستخفية الهرية على جزيرة ڤانكوڤر، والنمط VGIIc في أوريگون قد تكون مجرد مصادفة عجيبة، مع أن كليهما قد تأثر بالظروف ذاتها. ولم يسبق أن عرفت أمثال هذه الفاشيات قبل عام 1999، والآن حدثت فاشيتان اثنتان خلال فترة لا تزيد على سبع سنين فقط. وتؤكد هذه الظاهرة واحدة من الحقائق القليلة في حكاية البشر المصابين بالسعال، والوطاويط المتعفنة، والأشجار المتأثرة، وهي أن نقص الاهتمام بما تتمتع به الفطريات من قدرات على المهاجرة وعلى النمو على أي ثاوٍ host جديد في عالمنا المتزايد دفئا والمتزايد انكماشا على نفسه هو رهان سيىء جدا.
Jennifer Frazer
(فريزر) كاتبة وناشطة علمية حرة ولديها مدونة الأميبة اللعوبة (20) على شبكة مدونات ساينتفيك أمريكان، كما كتبت في المجلات: Nature و Grist و High Country News، وفازت بجائزة AAAS للصحافة العلمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق