...............................................................................................................................**

الجمعة، 15 نوفمبر 2024

الجزء الثاني {مقامات الحريري/ من المقامة السمرقندية الي المقامة المقامة الوبرية}

 

مقامات الحريري/المقامة السمرقندية

  مقامات الحريري

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: استَبْضَعْتُ في بعضِ أسْفاريَ القَنْدَ. وقصدْتُ سمَرْقَنْدَ. وكنتُ يومَئِذٍ قَويمَ الشّطاطِ. جَمومَ النّشاطِ. أرْمي عنْ قوْسِ المِراحِ. إلى غرَضِ الأفْراحِ. وأسْتَعينُ بماء الشّبابِ. على ملامِحِ السّرابِ. فوافَيْتُها بُكْرَةَ عَروبَةَ. بعْدَ أن كابَدتُ الصّعوبَةَ. فسَعَيْتُ وما ونَيْتُ. إلى أنْ حصَلَ البيْتُ. فلمّا نقَلْتُ إليْهِ قَنْدي. وملكْتُ قوْلَ عِندي. عُجْتُ إلى الحَمّامِ على الأثرِ. فأمَطْتُ عني وعْثاءَ السّفرِ. وأخذْتُ في غُسْلِ الجُمْعَةِ بالأثَرِ. ثمّ بادَرْتُ في هَيْئَةِ الخاشعِ. إلى مسجِدِها الجامِعِ. لألْحَقَ بمَنْ يَقْرُبُ منَ الإمامِ. ويقرِّبُ أفضَلَ الأنْعامِ. فحَظيتُ بأنْ جلّيْتُ في الحَلْبَةِ. وتخيّرْتُ المركَزَ لاستِماعِ الخُطبةِ. ولم يزَلِ النّاسُ يدخُلونَ في دينِ اللهِ أفْواجاً. ويرِدونَ فُرادَى وأزْواجاً. حتى إذا اكْتَظّ الجامِعُ بحفْلِهِ. وأظَلّ تَساوي الشّخْصِ وظِلّهِ. برزَ الخَطيبُ في أُهْبَتِهِ. مُتهادِياً خلْفَ عُصبَتِهِ. فارْتَقى في مِنبَرِ الدّعوةِ. إلى أن مثَلَ بالذّروَةِ. فسلّمَ مُشيراً باليَمينِ. ثم جلَسَ حتى خُتِمَ نظْمُ التأذينِ. ثمّ قامَ وقال: الحمدُ للهِ الممْدوحِ الأسْماء. المحْمودِ الآلاء. الواسعِ العَطاء. المدْعُوّ لحَسْمِ اللأواء. مالِكِ الأمَمِ. ومصوِّرِ الرّمَمِ. وأهْلِ السّماحِ والكرَمِ. ومُهلِكِ عادٍ وإرَمَ. أدْرَكَ كلَّ سِرٍ عِلمهُ. ووَسِعَ كلَّ مُصِرٍ حِلمُهُ. وعَمّ كلَّ عالَمٍ طَوْلُهُ. وهدّ كلَّ ماردٍ حولُهُ. أحمَدُهُ حمْدَ موَحِّدٍ مُسلِمٍ. وأدعوهُ دُعاءَ مؤمِّلٍ مسَلِّمٍ. وهوَ اللهُ لا إلهَ إلا هوَ الواحِدُ الأحَدُ. العادِلُ الصّمَدُ. لا ولَدَ له ولا والِد. ولا رِدْءَ معَه ولا مُساعِد. أرسَلَ محمّداً للإسْلامِ ممَهِّداً. وللمِلّةِ موطِّداً. ولأدِلّةِ الرّسُلِ مؤكِّداً. وللأسْوَدِ والأحْمَرِ مُسَدِّداً. وصَلَ الأرْحامَ. وعلّمَ الأحْكامَ. ووسَمَ الحَلالَ والحَرامَ. ورسَمَ الإحْلالَ والإحْرامَ. كرّمَ اللهُ محَلَّهُ. وكمّلَ الصّلاةَ والسّلامَ لهُ. ورحِمَ آلَهُ الكُرَماء. وأهلَهُ الرُحَماء. ما همَرَ رُكامٌ. وهدَرَ حَمامٌ. وسرَحَ سَوامٌ. وسَطا حُسامٌ. اعْمَلوا رَحِمَكُمُ اللهُ عمَلَ الصُلَحاء. واكْدَحوا لمَعادِكُمْ كدْحَ الأصِحّاء. وارْدَعوا أهْواءكُمْ ردْعَ الأعْداء. وأعِدّوا للرّحلَةِ إعدادَ السُعَداء. وادّرِعوا حُلَلَ الورَعِ. وداوُوا عِلَلَ الطّمَعِ. وسوّوا أوَدَ العمَلِ. وعاصُوا وساوِسَ الأمَلِ. وصوّروا لأوْهامِكُمْ حُؤولَ الأحْوالِ. وحُلولَ الأهْوال. ومُسوَرَةَ الأعْلالِ. ومُصارَمَةَ المالِ والآلِ. وادّكِروا الحِمامَ وسَكْرَةَ مصْرَعِهِ. والرّمْسَ وهوْلَ مُطّلَعِهِ. واللّحْدَ ووحْدَةَ مودَعِهِ. والمَلَكَ وروْعَةَ سؤالِهِ ومَطْلَعِهِ. والمَحوا الدّهْرَ ولؤمَ كَرّهِ. وسوءَ مِحالِهِ ومَكْرِهِ. كمْ طمَسَ مَعلَماً. وأمرّ مطْعَماً. وطحْطَحَ عرَمْرَماً. ودمّرَ ملِكاً مُكَرَّماً. همُّهُ سكُّ المسامِعِ. وسحُّ المَدامِعِ. وإكْداءُ المطامعِ. وإرْداءُ المُسمِعِ والسّامِعِ. عمّ حُكمُهُ المُلوكَ والرَّعاعَ. والمَسودَ والمُطاعَ. والمحْسودَ والحُسّادَ. والأساوِدَ والآسادَ. ما موّلَ إلا مالَ. وعكَسَ الآملَ. وما وصَلَ إلا وصالَ. وكلَمَ الأوْصالَ. ولا سَرّ إلا وساء. ولَؤمَ وأساء. ولا أصَحّ إلا ولّدَ الدّاءَ. ورَوّعَ الأوِدّاء. اللهَ اللهَ. رَعاكُمُ اللهُ! إلامَ مُداومَةُ اللّهْوِ. ومُواصَلَةُ السّهْوِ؟ وطولُ الإصْرارِ. وحمْلُ الآصارِ؟ واطّراحُ كَلامِ الحُكَماء. ومُعاصاةُ إلهِ السّماء؟ أمَا الهَرَمُ حصادُكُمْ. والمَدَرُ مِهادُكُمْ! أمَا الحِمامُ مُدرِكُكُمْ. والصّراطُ مَسلَكُكُمْ! أمَا الساعَةُ موعِدُكُكمْ. والساهِرةُ مورِدُكُمْ! أمَا أهْوالُ الطّامّةِ لكُمْ مُرصَدَةٌ. أمَا دارُ العُصاةِ الحُطَمَةُ المؤصَدَةُ! حارِسُهُمْ مالِكٌ. ورواؤهُمْ حالِكٌ. وطَعامُهُمْ السّمومُ. وهواؤهُمُ السَّمومُ. لا مالَ أسعدَهُمْ ولا ولَدَ. ولا عدَدَ حَماهُمْ ولا عُدَدَ. ألا رَحِمَ اللهُ امْرَأً ملكَ هَواهُ. وأمَّ مسالِكَ هُداهُ. وأحْكَمَ طاعَةَ موْلاهُ. وكدَحَ لرَوحِ مَأواهُ. وعمِلَ ما دامَ العُمرُ مُطاوِعاً. والدهْرُ مُوادِعاً. والصّحةُ كامِلَةً. والسّلامَةُ حاصِلَةً. وإلا دهَمَهُ عدَمُ المَرامِ. وحصَرُ الكَلامِ. وإلمامُ الآلامِ. وحُمومُ الحِمامِ. وهُدُوُّ الحَواسّ. ومِراسُ الأرْماسِ. آهاً لها حسْرَةً ألَمُها مؤكّدٌ. وأمَدُها سَرْمَدٌ. ومُمارِسُها مُكمَدٌ! ما لوَلَهِهِ حاسِمٌ. ولا لسَدمِهِ راحِمٌ. ولا لهُ ممّا عَراهُ عاصمٌ! ألْهَمَكُمُ اللهُ أحمَدَ الإلْهامِ. وردّاكُمْ رِداءَ الإكْرامِ. وأحلّكُمْ دارَ السّلامِ! وأسألُهُ الرحْمَةَ لكُمْ ولأهلِ مِلّةِ الإسلامِ. وهوَ أسمَحُ الكِرامِ. والمُسَلِّمُ والسّلامُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُ الخُطبَةَ نُخبةً بلا سَقَطٍ. وعَروساً بغيرِ نُقَطٍ. دَعاني الإعجابُ بنمَطِها العَجيبِ. إلى استِجْلاء وجْهِ الخَطيبِ. فأخَذْتُ أتوَسّمهُ جِدّاً. وأقلّبُ الطّرْفَ فيهِ مُجِدّاً. إلى أنْ وضحَ لي بصِدْقِ العلاماتِ. أنه شيخُنا صاحِبُ المَقاماتِ. ولم يكُنْ بُدٌّ منَ الصّمتِ. في ذلِك الوقْتِ. فأمسَكْتُ حتى تحلّلَ منْ الفَرْضِ. وحلّ الانتِشارُ في الأرضِ. ثمّ واجهْتُ تِلقاءهُ. وابتَدَرْتُ لِقاءَهُ. فلما لحظَني خفّ في القِيامِ. وأحْفى في الإكْرامِ. ثمّ استَصْحَبَني إلى دارِه. وأوْدَعَني خصائِصَ أسْرارِه. وحينَ انتشَر جَناحُ الظّلامِ. وحانَ ميقاتُ المَنامِ. أحضرَ أباريقَ المُدامِ. معكومَةً بالفِدامِ. فقلتُ: أتَحْسوها أمامَ النّومِ. وأنتَ إمامُ القوْمِ؟ فقال: مَهْ أنا بالنّهارِ خطيبٌ. وباللّيْلِ أطِيبُ! فقلتُ: واللهِ ما أدْري أأعْجَبُ من تسَلّيكَ عنْ أُناسِكَ. ومسقَطِ راسِكَ. أم منْ خِطابَتِكَ مع أدناسِكَ. ومَدارِ كاسِكَ؟ فأشاحَ بوجهِهِ عني. ثم قال اسمَعْ مني:

لا تبْكِ إلْـفـاً نـأى ولا دارا *** ودُرْ مع الدّهرِ كيفَـمـا دارا

 

واتّخِذِ الناسَ كُلّهُـمْ سـكَـنـاً *** ومثّلِ الأرضَ كـلّـهـا دارا

 

واصْبِرْ على خُلْقِ مَنْ تُعاشِرُهُ *** ودارِهِ فاللّـبـيبُ مـنْ دارى

 

ولا تُضِعْ فُرصَةَ السّرورِ فما *** تدْري أيَوْماً تـعـيشُ أمْ دارا

 

واعْلَمْ بأنّ الـمَـنـونَ جـائِلَةٌ *** وقدْ أدارَتْ على الوَرى دارا

وأقسَمَتْ لا تَـزالُ قـانِـصَةً *** ما كرّ عَصرا المَحْيا وما دارا

فكيفَ تُرْجى النّجاةُ من شرَكٍ *** لم ينْجُ منهُ كِسْـرى ولا دارا

قال: فلمّا اعْتَوَرتْنا الكُؤوس. وطرِبَتِ النّفوسُ. جرّعَني اليَمينَ الغَموسَ. على أنْ أحفظَ عليْهِ الناموسَ. فاتّبعْتُ مَرامَهُ. ورعيْتُ ذِمامَهُ. ونزّلْتُهُ بينَ الملإ منزِلَةَ الفُضَيْلِ. وسدَلْتُ الذّيْلَ. على مَخازي اللّيْلِ. ولمْ يزَلْ ذلِكَ دأبَهُ ودَابي. إلى أنْ تهيّأ إيابي. فودّعْتُهُ وهوَ مصرٌّ على التّدْليسِ. ومُسِرٌّ حسْوَ الخَنْدَريسِ.

=======

مقامات الحريري/المقامة السنجارية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: قفَلتُ ذاتَ مرّةٍ منَ الشامِ. أنحو مدينةَ السّلامِ. في ركبٍ من بني نُمَيرٍ. ورُفقَةٍ أولي خيرٍ ومَيرٍ. ومعَنا أبو زيدٍ السّروجيُّ عُقلَةُ العَجْلانِ. وسَلْوَةُ الثّكْلانِ. وأُعجوبَةُ الزّمانِ. والمُشارُ إليْهِ بالبَنانِ. في البَيانِ. فصادَفَ نزولُنا سِنْجارَ. أنْ أوْلَمَ بها أحدُ التّجارِ. فدَعا إلى مأدُبَتِه الجَفلى. من أهلِ الحضارةِ والفَلا. حتى سرَتْ دعوتُهُ إلى القافِلَةِ. وجمَعَ فيها بينَ الفَريضةِ والنّافِلَةِ. فلمّا أجَبْنا مُنادِيَهُ. وحللْنا نادِيَهُ. أحضَرَ منْ أطعِمَةِ اليدِ واليَدَيْنِ. ما حَلا في الفَمِ وحَليَ بالعَينِ. ثمّ قدّمَ جاماً كأنّما جُمّدَ من الهَواء. أو جُمِعَ منَ الهَباء. أو صِيغَ منْ نورِ الفضاء. أو قُشِرَ منَ الدُرّةِ البيضاء. وقد أودِعَ لَفائِفَ النّعيمِ. وضُمّخَ بالطّيبِ العَميمِ. وسيقَ إليْهِ شِرْبٌ منْ تسْنيمٍ. وسفَرَ عنْ مرْأًى وسيمٍ. وأرَجِ نَسيمٍ. فلمّا اضطَرَمَتْ بمحْضَرِهِ الشّهَواتُ. وقرِمَتْ إلى مخْبَرِهِ اللّهَواتُ. وشارَفَ أنْ تُشَنّ على سِرْبِهِ الغاراتُ. ويُنادَى عندَ نهْيِهِ: يا للثّاراتِ! نشَزَ أبو زيدٍ كالمجْنونِ. وتباعَدَ عنهُ تباعُدَ الضّبّ منَ النّونِ. فراوَدناهُ على أن يعودَ. وأنْ لا يكونَ كقُدارٍ في ثمودَ. فقال: والذي يُنشِرُ الأمْواتَ منَ الرِّجامِ. لا عُدْتُ دونَ رفْعِ الجامِ. فلمْ نجِدْ بُدّاً منْ تألُّفِهِ. وإبْرارِ حَلِفِهِ. فأشَلْناهُ والعُقولُ معَهُ شائِلَةٌ. والدّموعُ علَيْهِ سائِلَةٌ. فلمّا فاءَ إلى مجْثمِهِ. وخلَصَ منْ مأثَمِهِ. سألناهُ لمَ قامَ. ولأيّ معنًى استرْفَعَ الجامَ؟ فقال: إنّ الزّجاجَ نَمّامٌ. وإني آليتُ مُذْ أعوامٍ. أنْ لا يضُمّني ونموماً مَقامٌ. فقُلنا لهُ: وما سبَبُ يَمينِكَ الصِّرّى. وألِيّتِكَ الحرّى؟ فقال: إنهُ كانَ لي جارٌ لسانُهُ يتقرّبُ. وقلبُهُ عقْرَبٌ. ولفظُهُ شهدٌ ينقَعُ. وخَبْؤهُ سمٌ منقَعٌ. فمِلْتُ لمُجاورَتِهِ. إلى مُحاورَتِهِ. واغتَرَرْتُ بمُكاشَرَتِهِ. في مُعاشرَتِهِ. واستهْوَتْني خُضرَةُ دمْنَتِهِ. لمُنادَمَتِهِ. وأغرَتْني خُدْعَةُ سمَتِهِ. بمُناسمَتِهِ. فمازَجْتُهُ وعندي أنّهُ جارٌ مُكاسرٌ. فبانَ أنّهُ عُقابٌ كاسِرٌ. وأنَسْتُهُ على أنهُ حِبٌ مؤانِسٌ. فظهرَ أنهُ حُبابٌ مؤالِسٌ. ومالحْتُهُ ولا أعلَمُ أنهُ عندَ نقْدِهِ. ممّنْ يُفرَحُ بفَقْدِه. وعاقرْتُهُ ولم أدْرِ أنهُ بعدَ فرّهِ. ممّنْ يُطرَبُ لمَفرّهِ. وكانتْ عندي جاريةٌ. لا يوجَدُ لها في الجَمالِ مُجاريَةٌ. إنْ سفرَتْ خجِلَ النّيِّرانِ. وصَلِيَتِ القُلوبُ بالنّيرانِ. وإنْ بسَمَتْ أزْرَتْ بالجُمانِ. وبيعَ المرْجانُ. بالمجّانِ. وإنْ رنَتْ هيّجَتِ البلابِلَ. وحقّقَتْ سحْرَ بابِلَ. وإنْ نطقَتْ عقَلَتْ لُبّ العاقِلِ. واستنْزَلَتِ العُصْمَ من المعاقِلِ. وإنْ قرأتْ شفَتِ المفْؤودَ. وأحيَتِ الموؤودَ. وخِلْتَها أُوتِيَتْ منْ مَزاميرِ آلِ داودَ. وإنْ غنّتْ ظلّ معبَدٌ لها عبْداً. وقيلَ: سُحْقاً لإسْحَقَ وبُعْداً! وإنْ زمرَتْ أضحى زُنامٌ عندَها زَنيماً. بعدَ أن كان لجيلِهِ زعيماً. وبالإطْرابِ زعيماً. وإنْ رقصَتْ أمالَتِ العَمائِمَ عنِ الرؤوسِ. وأنستْكَ رقْصَ الحبَبِ في الكؤوسِ. فكُنتُ أزدَري معَه حُمْرَ النَّعَمِ. وأُحَلّي بتمَلّيها جيدَ النِّعَمِ. وأحْجُبُ مرْآها عنِ الشّمسِ والقمَرِ. وأذودُ ذِكْراها عنْ شرائِعِ السّمَرِ. وأنا معَ ذلِكَ أُليحُ. منْ أن تسْري برَيّاها ريحٌ. أو يَكهُنَ بها سَطيحٌ. أو ينمّ علَيْها برْقٌ مُليحٌ. فاتّفَقَ لوشْلِ الحظّ المبْخوسِ. ونكْدِ الطّالِعِ المنْحوسِ. أنْ أنْطَقَتْني بوصْفِها حُمَيّا المُدامِ. عندَ الجارِ النّمّامِ. ثمّ ثابَ الفهْمُ. بعدَ أن صرِدَ السّهْمُ. فأحسَسْتُ الخبالَ والوَبالَ. وضَيعَةَ ما أُودِعَ ذلِكَ الغِرْبالُ. بيدَ أني عاهدْتُهُ على عكْمِ ما لفظْتُهُ. وأنْ يحفَظَ السّرَّ ولوْ أحفَظْتُهُ. فزعَمَ أنهُ يخزُنُ الأسرارَ. كما يخزُنُ اللّئيمُ الدّينارَ. وأنهُ لا يهتِكُ الأسْتارَ. ولو عُرِّضَ لأنْ يلِجَ النارَ. فما إنْ غبَرَ على ذلِكَ الزّمانِ. إلا يومٌ أو يومانِ. حتى بَدا إلى أميرِ تِلكَ المَدَرَةِ. وواليها ذي المَقدُرةِ. أنْ يقصِدَ بابَ قَيلِهِ. مجدِّداً عرْضَ خيلِهِ. ومُستَمطِراً عارِضَ نيلِهِ. وارْتادَ أنْ تصحَبَهُ تُحْفَةٌ تُلائِمُ هواهُ. ليُقدّمَها بينَ يدَيْ نجْواهُ. وجعلَ يبذُلُ الجعائلَ لروّادِهِ. ويُسنّي المراغِبَ لمَنْ يُظْفِرُهُ بمُرادِهِ. فأسَفّ ذلِكَ الجارُ الختّارُ إلى بُذولِهِ. وعصى في ادّراغِ العارِ عذْلِ عَذولِهِ. فأتى الوالي ناشِراً أذُنَيْهِ. وأبثّهُ ما كُنتُ أسرَرْتُهُ إليْهِ. فما راعَني إلا انسِيابُ صاغِيَتِه إليّ. وانثِيالُ حفَدَتِهِ عليّ. يَسومُني إيثارَهُ بالدُرّةِ اليَتيمةِ. على أنْ أتحكّمَ عليْهِ في القِيمةِ. فغَشِيَني منَ الهمّ. ما غشِيَ فِرعَونَ وجنودَهُ منَ اليَمّ. ولمْ أزلْ أدافِعُ عنها ولا يُغْني الدّفاعُ. وأستَشفِعُ إليْهِ ولا يُجْدي الاستِشْفاعُ. وكلّما رأى منّي ازدِيادَ الاعْتِياصِ. وارتِيادَ المَناصِ. تجرّمَ وتضرّمَ. وحرّقَ عليّ الأُرَّمَ. ونفْسي معَ ذلِكَ لا تسمَحُ بمُفارَقَةِ بدْري. ولا بأنْ أنزِعَ قلْبي منْ صدري. حتى آلَ الوَعيدُ إيقاعاً. والتّقريعُ قِراعاً. فقادَني الإشْفاقُ منَ الحَينِ. إلى أن قِضْتُهُ سوادَ العَينِ. بصُفرةِ العَينِ. ولم يحْظَ الواشي بغيرِ الإثْمِ والشَّينِ. فعاهدتُ اللهَ تَعالى مُذْ ذلِك العهْدِ. أنْ لا أُحاضِرَ نمّاماً منْ بعْدُ. والزّجاجُ مخصوصٌ بهذِه الطّباعِ الذّميمةِ. وبهِ يُضرَبُ المثَلُ في النّميمةِ. فقدْ جرى عليْهِ سيْلُ يميني. ولذلِكُمُ السّببِ لمْ تمْتَدّ إلَيْهِ يَميني:

فلا تعذِلوني بعدَما قـد شـرحـتُـهُ *** على أنْ حُرِمْتمْ بي اقتِطافَ القطائِفِ

 

فقد بانَ عُذري في صَنيعي وإنّـنـي *** سأرْتُقُ فَتقي من تَليدي وطـارِفـي

 

على أنّ ما زوّدْتُكُـمْ مـن فُـكـاهَةٍ *** ألذُّ من الحُلْوى لـدَى كـل عـارِفِ

قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقبِلْنا اعتِذارَهُ. وقبّلنا عِذارَهُ. وقُلْنا لهُ: قِدْماً وقذَتِ النّميمةُ خيرَ البشَرِ. حتى انتشَرَ عنْ حمّالةِ الحطبِ ما انتشَرَ. ثمّ سألْناهُ عما أحدَثَ جارُهُ القَتّاتُ. ودُخْلُلُهُ المُفْتاتُ. بعدَ أن راشَ لهُ نبْلَ السّعايَةِ. وجذَمَ حبْلَ الرّعايةِ. فقال: أخذَ في الاستِخْداء والاستِكانَةِ. والاستِشْفاعِ إليّ بذَوي المكانةِ. وكنتُ حرّجتُ على نفسي. أنْ لا يستَرْجِعَهُ أُنْسي. أو يرْجِع إليّ أمْسي. فلمْ يكُنْ لهُ مني سِوى الردّ. والإصْرارِ على الصّدّ. وهوَ لا يكتَئِبُ منَ النّجْهِ. ولا يتّئِبُ منْ وقاحةِ الوجهِ. بلْ يُلِطّ بالوَسائِلِ. ويُلحّ في المسائِلِ. فما أنقذَني منْ إبْرامِهِ. ولا أبْعَدَ عليْهِ نَيْلَ مَرامِهِ. إلا أبياتٌ نفثَ بها الصّدرُ الموتورُ. والخاطرُ المبْتورُ. فإنّها كانتْ مَدْحَرَةً لشيطانِهِ. ومسجَنَةً لهُ في أوطانِهِ. وعندَ انتِشارِها بتّ طَلاقَ الحُبورِ. ودَعا بالويْلِ والثّبورِ. ويَئِسَ منْ نشْرِ وصْلي المقْبورِ. كم يئِسَ الكُفّارُ منْ أصحابِ القُبورِ. فناشَدْناهُ أنْ يُنشِدَنا إيّاها. ويُنشِقنا ريّاها. فقال: أجَلْ. خُلِقَ الإنسانُ منْ عجَلٍ. ثمّ أنشدَ لا يَزْويهِ خجَلٌ. ولا يثْنيهِ وجَلٌ:

ونَديمٍ محَضْتُـهُ صِـدْقَ ودّي *** إذْ توهّمْتُهُ صَديقاً حَمـيمـا

 

ثمّ أولَـيتُـهُ قَـطـيعةَ قـالٍ *** حينَ ألفَيتُهُ صَديداً حَمـيمـا

 

خِلتُهُ قبلَ أنْ يجـرَّبَ إلْـفـاً *** ذا ذِمامٍ فبانَ جِلْفـاً ذَمـيمـا

 

وتخيّرْتُهُ كليمـاً فـأمْـسـى *** منهُ قلْبي بما جَناهُ كَلـيمـا

 

وتظنّيْتُهُ مُعـينـاً رَحـيمـاً *** فتبيّنتُهُ لَـعـينـاً رَجـيمـا

 

وتراءَيْتُهُ مُـريداً فـجـلّـى *** عنهُ سَبْكي لهُ مَريداً لَـئيمـا

 

وتوسّمْتُ أنْ يهُبّ نَـسـيمـاً *** فأبى أن يهُبّ إلا سَمـومـا

 

بِتُّ من لسْعِهِ الذي أعجزَ الرّا *** قي سَليماً وباتَ مني سَليمـا

 

وبَدا نهجُهُ غَداةَ افتـرَقْـنـا *** مُستَقيماً والجسمُ مني سَقيمـا

 

لم يكنْ رائِعاً خَصيباً ولـكِـنْ *** كان بالشرّ رائِعاً لي خَصيما

 

قلتُ لمّا بلَوْتُـهُ لـيتَـهُ كـا *** نَ عديماً ولمْ يكُنْ لي نَديمـا

 

بغّضَ الصّبْحَ حينَ نمّ إلى قلْ *** بي لأنّ الصّباحَ يُلْفى نَموما

 

ودَعاني إلى هوَى الليلِ إذْ كا *** نَ سوادُ الدُجى رَقيباً كَتومـا


وكفى مَنْ يَشي ولوْ فاهَ بالصّدْ *** قِ أثاماً فيما أتـاهُ ولـومـا

قال: فلمّا سمِعَ ربُّ البيتِ قَريضَهُ وسجْعَهُ. واستمْلَحَ تقريظَهُ وسبْعَهُ. بوّأهُ مِهادَ كرامَتِهِ. وصدّرَهُ على تكرِمتِهِ. ثم استحْضَرَ عشْرَ صِحافٍ منَ الغرَبِ. فيها حَلْواءُ القَنْدِ والضّرْبِ. وقال لهُ: لا يستَوي أصحابُ النّارِ وأصحابُ الجَنّةِ. ولا يسَعُ أنْ يُجعَلَ البَريءُ كذي الظِّنّةِ. وهذهِ الآنِيةُ تتنزّلُ منزلَةَ الأبْرارِ. في صوْنِ الأسْرارِ. فلا تولِها الإبْعادَ. ولا تُلحِقْ هوداً بعادَ. ثم أمر خادمَهُ بنقْلِها إلى مثْواهُ. ليحْكُمَ فيها بما يهْواهُ. فأقبلَ عليْنا أبو زيدٍ وقال: اقرأوا سورةَ الفتْحِ. وأبشِروا باندِمالِ القرْحِ. فقدْ جبرَ اللهُ ثُكْلَكُمْ. وسنّى أكْلكُمْ. وجمعَ في ظِلّ الحَلْواء شمْلَكُمْ. وعسَى أنْ تكرَهوا شيئاً وهوَ خيرٌ لكُمْ. ولمّا همّ بالانصِرافِ. مالَ إلى استِهداء الصِّحافِ. فقال للآدِبِ: إنّ من دلائِلِ الظّرْفِ. سماحَةَ المُهدي بالظّرْفِ. فقال: كلاهُما لكَ والغُلمُ. فاحذِفِ الكلامَ. وانهضْ بسَلامٍ. فوثبَ في الجوابِ. وشكرَهُ شُكْرَ الرّوضِ للسّحابِ. ثمّ اقْتادَنا أبو زيْدٍ إلى حِوائِهِ. وحكّمَنا في حَلْوائهِ. وجعلَ يقلّبُ الأواني بيَدِهِ. ويفُضّ عدَدَها على عدَدِه. ثمّ قال: لستُ أدري أأشكو ذلِك النّمّامَ أم أشكُرُ. وأتناسَى فَعْلَتَهُ التي فعلَها أم أذكُرُ؟ فإنهُ وإنْ كان أسْلَفَ الجريمَةَ. ونمْنَمَ النّميمَةَ. فمِنْ غيمِهِ انهلّتْ هذِهِ الدّيمَةُ. وبسيفِهِ انحازَتْ هذه الغَنيمةُ. وقد خطرَ ببالي. أن أرْجِعَ إلى أشْبالي. وأقنَعَ بما تسنّى لي. وأنْ لا أُتعِبَ نفْسي ولا أجْمالي. وأنا أودّعُكُمْ وداعَ مُحافِظٍ. وأستودِعُكُمْ خيرَ حافِظٍ. ثمّ اسْتَوى على راحِلَتِهِ. راجِعاً في حافرَتِه. ولاوِياً إلى زافِرَتِهِ. فغادَرَنا بعدَ أنْ وخدَتْ عنْسُهُ. وزايَلَنا أُنْسُهُ. كدَسْتٍ غابَ صدرُهُ. أو ليلٍ أفَلَ بدْرُهُ.

======================

مقامات الحريري/المقامة الشتوية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عشَوْتُ في ليلَةٍ داجِيَةِ الظُّلَمِ. فاحِمَةِ اللِّمَمِ. إلى نارٍ تُضْرَمُ على علَمٍ. وتُخبِرُ عن كرَمٍ. وكانتْ ليلَةً جوُّها مَقرورٌ. وجَيْبُها مَزْرورٌ. ونجمُها مغْمومٌ. وغيمُها مرْكومٌ. وأنا فيها أصْرَدُ منْ عينِ الحِرْباء. والعَنْزِ الجَرْباء. فلمْ أزلْ أنُصّ عنْسي. وأقولُ: طوبى لكِ ولَنفْسي! إلى أن تبصّرَ المُوقِدُ آلي. وتبيّنَ إرْقالي. وتبيّنَ إرْقالي. فانحدَرَ يعْدو الجَمَزَى. ويُنشِدُ مُرتَجِزاً:

 

حُيّيتَ منْ خابِـطِ لـيْلٍ سـاري * * * هَداهُ بلْ أهْداهُ ضـوءُ الـنـارِ

 

الى رَحيبِ الباعِ رحْـبِ الـدّارِ * * * مرحِّبٍ بالطّارِقِ المُـمْـتـارِ

 

تَرْحابَ جعْدِ الكفّ بـالـدّينـارِ * * * ليسَ بـمُـزْوَرٍّ عـنِ الـزُوّارِ

 

ولا بمِعْتامِ الـقِـرى مِـئْخـارِ * * * إذا اقشَعرّتْ تُرَبُ الأقْـطـارِ

 

وضَنّتِ الأنـواءُ بـالأمْـطـارِ * * * فهْوَ على بؤسِ الزّمانِ الضّاري * * *

 

جمُّ الرّمادِ مرهَفُ الـشِّـفـارِ * * * لمْ يخْلُ في لـيلٍ ولا نَـهـارِ من نحْرِ وارٍ واقتِـداحِ وارِي

ثمّ تلقّاني بمُحيّا حَييٍّ. وصافَحَني براحَةِ أريَحِيٍّ. واقْتادَني إلى بيتٍ عِشارُهُ تخورُ. وأعْشارُهُ تفورُ. وولائِدُهُ تمورُ. وموائِدُهُ تدورُ. وبأكْسارِهِ أضْيافٌ قدْ جلبَهُم جالِبي. وقُلّبوا في قالَبي. وهُمْ يجتَنونَ فاكِهةَ الشّتاء. ويمرَحونَ مرَحَ ذَوي الفَتاء. فأخذْتُ مأخذَهُمْ في الاصطِلاء. ووجدْتُ بهِمْ وجْدَ الثّمِلِ بالطِّلاء. ولمّا أنْ سَرى الحصَرُ. وانْسَرى الخَصَرُ. أُتينا بمَوائِدَ كالهالاتِ دَوْراً. والرّوْضاتِ نَوْراً. وقد شُحنّ بأطْعِمَةِ الوَلائمِ. وحُمينَ منَ العائِبِ واللائِمِ. فرفَضْنا ما قيلَ في البِطنَةِ. ورأيْنا الإمْعانَ فيها منَ الفِطنَةِ. حتى إذا اكتَلْنا بصاعِ الحُطَمِ. وأشْفَيْنا على خطَرِ التُخَمِ. تعاوَرْنا مَشوشَ الغمَرِ. ثمّ تبوّأنا مقاعِدَ السّمَرِ. وأخذَ كُلُّ واحِدٍ منا يَشولُ بلِسانِهِ. وينشُرُ ما في صِوانِهِ. ما عَدا شيخاً مُشتَهِباً فَوْداهُ. مُخلَوْلِقاً بُرْداهُ. فإنّهُ ربَضَ حَجرَةً. وأوسَعَنا هِجرَةً. فغاظَنا تجنّبُهُ. المُلتَبِسُ موجِبُهُ. المعْذورُ فيهِ مؤنّبُهُ. إلا أنّا ألَنّا لهُ القوْلَ. وخشِينا في المسألَةِ العوْلَ. وكلّما رُمْنا أنْ يَفيضَ كما فِضْنا. أو يُفيضَ في ما أفَضْنا. أعْرَضَ إعْراضَ العِلّيّةِ عنِ الأرْذَلينَ. وتَلا: إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوّلينَ. ثمّ كأنّ الحَميّةَ هاجَتْهُ. والنّفْسَ الأبيّةَ ناجَتْهُ. فدلَفَ وازْدَلَفَ. وخلعَ الصّلَفَ. وبذلَ أنْ يتَلافى ما سلَفَ. ثمّ استرْعى سمْعَ السّامِرِ. واندفَعَ كالسّيلِ الهامِرِ. وقال:

 

عِندي أعاجيبُ أرْويهـا بـلا كـذِبِ * * * عنِ العِيانِ فكَنّوني أبا الـعـجَـب

رأيتُ يا قوْمِ أقْـوامـاً غـذاؤهُـمُ * * * بَوْلُ العجوزِ وما أعني ابنَةَ العِنَـبِ

 

ومُسنِتِينَ منَ الأعْـرابِ قـوتُـهُـمُ * * * أن يشتووا خِرقةً تُغني من السّغَـبِ

 

وقادِرينَ متى ما ساء صُـنـعُـهُـمُ * * * أو قصّروا فيه قالوا الذّنْبُ للحطَبِ

 

وكاتِبينَ وما خطّـتْ أنـامِـلُـهُـمْ * * * حرْفاً ولا قرَأوا ما خُطّ في الكُتُـبِ

 

وتابِعينَ عُقابـاً فـي مـسـيرِهِـمِ * * * على تكمّيهِمِ في البيْضِ والـيَلَـبِ

 

ومُنتَدينَ ذَوي نُـبْـلٍ بـدَتْ لـهُـمُ * * * نبيلَةٌ فانْثَنوْا منهـا الـى الـهـرَبِ

 

وعُصبَةً لمْ ترَ البيْتَ العَتـيقَ وقـدْ * * * حجّتْ جُثِيّاً بلا شكٍّ على الـرُّكَـبِ

 

ونِسوَةً بعدَما أدْلجـنَ مـن حـلَـبٍ * * * صبّحنَ كاظِمَةً من غيرِ ما تـعَـبِ

 

ومُدلِجينَ سرَوْا من أرضِ كاظِـمَةٍ * * * فأصبَحوا حينَ لاحَ الصُبحُ في حلَبِ

 

ويافِعاً لـم يُلامِـسْ قـطُّ غـانِـيَةً * * * شاهَدتُهُ ولهُ نسلٌ مـنَ الـعَـقِـبِ

 

وشائِباً غيرَ مُخْفٍ للمَـشـيبِ بَـدا * * * في البَدْوِ وهْوَ فتيُّ السِّنّ لم يشِـبِ

 

ومُرضَعاً بلِبـانٍ لـمْ يفُـهْ فـمُـهُ * * * رأيتُهُ في شِجارٍ بـيّنِ الـسّـبَـبِ

 

وزارِعاً ذُرَةً حتـى إذا حُـصِـدَتْ * * * صارتْ غُبَيراء يهواها أخو الطّرَبِ

 

وراكِباً وهْوَ مغلولٌ عـلـى فـرَسٍ * * * قد غُلّ أيضاً وما ينفكّ عن خـبَـبِ

 

وذا يدٍ طُـلُـقٍ يقْـتـادُ راحِــلَةً * * * مُستَعجِلاً وهْوَ مأسورٌ أخو كُـرَبِ

 

وجالِساً ماشياً تـهْـوي مـطـيّتُـهُ * * * بهِ وما في الذي أوْرَدتُ مـن رِيَبِ

 

وحائكاً أجْذَمَ الـكـفّـينِ ذا خـرَسٍ * * * فإن عجبتمْ فكمْ في الخَلقِ من عجَبِ * * *

 

وذا شَطاطٍ كصدرِ الرّمحِ قامَـتُـهُ * * * صادَفتُهُ بمِنًى يشكو منَ الـحـدَبِ

 

وساعياً في مـسَـرّاتِ الأنـامِ يرى * * * إفْراحَهُمْ مأثماً كالظُّلـمِ والـكـذِبِ

 

ومُغْرَماً بمُنـاجـاةِ الـرّجـالِ لـهُ * * * وما له في حديثِ الخلقِ مـن أرَبِ

 

وذا ذِمامٍ وفَتْ بالـعَـهْـدِ ذمّـتُـهُ * * * ولا ذِمامَ لهُ في مذهَبِ الـعـرَبِ

 

وذا قُوًى ما اسْتبانَتْ قـطّ لِـينَـتُـهُ * * * ولِينُهُ مُستَبينٌ غـيرُ مُـحـتـجِـبِ

 

وساجداً فوقَ فحْلٍ غيرَ مـكـتـرِثٍ * * * بِماأتى بلْ يراهُ أفضـلَ الـقُـرَبِ

 

وعاذِراً مؤلِمـاً مَـنْ ظـلّ يعـذِرُهُ * * * معَ التّلطّفِ والمعذورُ في صخَـبِ

 

وبلْدَةً ما بهـا مـاءٌ لـمُـغـتَـرِفٍ * * * والماءُ يجري عليْها جرْيَ مُنسـرِبِ

 

وقريةً دونَ أُفحوصِ القطا شُحنـتْ * * * بديلمٍ عشيهُمْ من خُلسَةِ الـسّـلَـبِ

 

وكوْكَباً يتَـوارى عـنـدَ رؤيتـهِ ال * * * إنسانُ حتى يُرَى في أمنَعِ الحُجُـبِ

 

وروْثَةً قوّمَـتْ مـالاً لـهُ خـطَـرٌ * * * ونفْسُ صاحِبِها بالمالِ لـم تـطِـبِ

 

وصحفَةً من نُضارٍ خالصٍ شُـريتْ * * * بعدَ المِكاسِ بقيراطٍ مـن الـذّهـبِ

 

ومُستَجيشاً بخشْخـاشٍ لـيدفـعَ مـا * * * أظَلّهُ مـنْ أعـاديهِ فـلـمْ يخِـبِ

 

وطالَما مرّ بي كلبٌ وفـي فـمـهِ * * * ثورٌ ولـكـنّـهُ ثـورٌ بـلا ذنَـبِ

 

وكمْ رأى ناظِير فيلاً علـى جـمَـلٍ * * * وقد تورّكَ فوقَ الرّحْلِ والـقـتَـبِ

 

وكم لَقيتُ بعرْضِ البيدِ مُشـتـكـياً * * * وما اشتكى قطّ في جِدٍّ وفي لعِـبِ

 

وكنتُ أبصـرْتُ كـرّازاً لـراعِـيَةٍ * * * بالدّوّ ينظُرُ من عينَينِ كالـشُـهُـبِ

 

وكم رأتْ مُقلَتي عينَينِ مـاؤهُـمـا * * * يجري من الغَرْبِ والعَينانِ في حلَبِ

 

وصادِعاً بالقَنا من غيرِ أن علِـقَـتْ * * * كفّاهُ يوماً بـرُمْـحٍ لا ولـمْ يثِـبِ

 

وكم نزلْتُ بأرضٍ لا نَخـيلَ بـهـا * * * وبعدَ يوم رأيتُ البُسرَ في القُـلُـبِ

 

وكم رأيتُ بأقْطارِ الفَـلا طـبَـقـاً * * * يطيرُ في الجوّ منصَبّاً إلى صـبَـب

وكم مشايخَ فـي الـدُنْـيا رأيتُـهُـمُ * * * مخَلَّدينَ ومَنْ ينْجو من الـعـطَـبِ

 

وكم بدا لي وحْشٌ يشتكي سـغَـبـاً * * * بمنطِقٍ ذلِقٍ أمضى منَ القُـضُـبِ

 

وكم دَعانيَ مُستَنْـجٍ فـحـادثَـنـي * * * وما أخَلّ ولا أخْـلَـلْـتُ بـالأدَبِ

 

وكم أنختُ قَلوصي تحت جُـنـبُـذَةٍ * * * تُظلّ ما شئتَ من عُجمٍ ومن عُـرُبِ

 

وكم نظرْتُ إلى منع سُرّ ساعَـتَـهُ * * * ودمعُهُ مستَهِلُّ القطرِ كالـسُّـحُـبِ

 

وكم رأيتُ قَميصاً ضرّ صـاحِـبَـهُ * * * حتى انثنَى واهيَ الأعضاء والعصَبِ * * *

 

وكمْ إزارٍ لوَ انّ الدهـرَ أتـلَـفَـهُ * * * لجفّ لِبْدُ حَثيثِ السيرِ مُضـطـرِبِ

 

هذا وكمْ منْ أفـانـينٍ مـعـجِّـبَةٍ * * * عندي ومن مُلَحٍ تُلهي ومن نُـخَـبِ

 

فإنْ فطِنتمْ للَحنِ القوْلِ بـان لـكُـمْ * * * صِدْقي ودلّكُمُ طلْعي على رُطَبـي

 

وإنْ شُدِهتُمْ فإنّ العارَ فـيهِ عـلـى * * * منْ لا يُمَيّزُ بينَ العودِ والـخـشَـب

قال الحارثُ بنُ همّام: فطفِقْنا نخبِطُ في تقْليبِ قَريضِهِ. وتأويلِ مَعاريضِهِ. وهوَ يلهو بِنا لهْوَ الخليّ بالشّجيّ. ويقول: ليسَ بعُشّكِ فادْرُجي. إلى أن تعسّرَ النّتاجُ. واستحْكَمَ الارْتجاجُ. فألْقَينا إليْهِ المَقادَةَ. وخطَبْنا منهُ الإفادَةَ. فوقَفْنا بينَ المَطمَعِ والياسِ. وقال: الإيناسف قبلَ الإبْساسِ! فعلِمنا أنهُ ممّنْ يرغَبُ في الشُّكْمِ. ويرْتَشي في الحُكْمِ. وساء أبا مثْوانا أنْ نعرَّضَ للغُرْمِ. أو نُخَيَّبَ بالرُّغْمِ. فأحْضَرَ صاحِبُ المنزِلِ ناقةً عِيديّةً. وحُلّةً سَعيديّةً. وقال له: خُذْهُما حَلالاً. ولا ترْزأ أضْيافي زِبالاً. فقال: أشهَدُ أنها شِنشِنَةٌ أخزَميّةٌ. وأريَحيّةٌ حاتِميّةٌ. ثم قابلَنا بوجهٍ بِشرُهُ يشِفّ. ونَضْرَتُهُ ترِفّ. وقال: يا قوْمِ إنّ الليْلَ قدِ اجْلَوّذَ. والنّعاسَ قدِ استحْوَذَ. فافْزَعوا إلى المَراقِدِ. واغتَنِموا راحَةَ الرّاقِدِ. لتَشرَبوا نَشاطاً. وتُبعَثوا نِشاطاً. فتَعوا ما أفَسّرُ. ويتسهّلَ لكُمُ المتعسِّرُ. فاسْتَصوَبَ كلٌ ما رآهُ. وتوسّد وِسادَةَ كَراهُ. فلمّا وسَنَتِ الأجْفانُ. وأغْفَتِ الضِّيفانُ. وثبَ إلى النّاقَةِ فرحَلَها. ثمّ ارتَحَلَها ورحّلَها. وقال مُخاطِباً لها: سَروجَ يا ناقَ فَسيري وخِـدِي * * * وأدْلِجـي وأوّبـي وأسْـئِدي

 

حتى تَطا خُفّاكِ مرْعاها النّدي * * * فتَنعَمي حينَئذٍ وتَـسـعَـد

وتأمَني أنْ تُتْهِمي وتُنْـجِـدي * * * إيهِ فدَتكِ النّوقُ جِدّي واجهَدي * * 

وافْرِي أديمَ فدْفَـدٍ فـفَـدْفَـدِ * * * واقْتَنِعِي بالنّشْحِ عندَ المـوْرِد

ولا تَحُطّي دونَ ذاكَ المَقصِـدِ * * * فقدْ حلَفْتُ حَلفَةَ المُجتَـهِـدِ

بحُرمَةِ البيتِ الرّفيعِ العُـمُـدِ * * * إنّكِ إنْ أحلَلْتِني في بـلَـدي حللْتِ منّي بمحَـلّ الـولَـدِ

قل: فعلِمْتُ أنهُ السّروجيُّ الذي إذا باعَ انْباعَ. وإذا ملأ الصّاعَ انْصاعَ. ولمّا انبلَجَ صَباحُ اليومِ. وهبّ النّوّامُ منَ النّومِ. أعلَمتُهُمْ أن الشيخَ حينَ أغْشاهُمُ السُباتَ. طلّقَهُمُ البَتاتَ. وركِبَ النّاقَةَ وفاتَ. فأخذَهُم ما قَدُمَ وما حَدُثَ. ونَسوا ما طابَ منهُ بِما خبُثَ. ثمّ انشَعَبْنا في كلّ مشْعَبٍ. وذهبْنا تحْتَ كُلّ كوكَبٍ.

=====================

مقامات الحريري/المقامة الشعرية 

حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: نَبا بي مألَفُ الوطَنِ. في شرْخِ الزّمنِ. لخَطْبٍ خُشِيَ. وخوفٍ غشِيَ. فأرَقْتُ كأسَ الكَرى. ونصَصْتُ رِكابَ السُّرَى. وجُبْتُ في سَيْري وُعوراً لم تُدَمّثْها الخُطى. ولا اهتَدَتْ إليْها القَطا. حتى ورَدْتُ حِمَى الخِلافَةِ. والحرَمَ العاصمَ من المَخافةِ. فسرَوْتُ إيجاسَ الرّوْعِ واستِشْعارَهُ. وتسرْبَلْتُ لِباسَ الأمْنِ وشِعارَهُ. وقصَرْتُ همّي على لذّةٍ أجتَنيها. ومُلْحَةٍ أجْتَليها. فبرَزْتُ يوْماً إلى الحريمِ لأرُوضَ طِرْفي. وأُجيلَ في طُرْقِهِ طَرْفي. فإذا فُرْسانٌ مُتتالونَ. ورِجالٌ مُنثالونَ. وشيْخٌ طويلُ اللّسانِ. قصيرُ الطّيلَسانِ. قد لَبّبَ فتًى جَديدَ الشّبابِ. خلَقَ الجِلْبابِ. فركضْتُ في إثْرِ النّظّارَةِ. حتى وافَيْنا بابَ الإمارَةِ. وهُناكَ صاحِبُ المَعونَةِ مربِّعاً في دَسْتِهِ. ومُروِّعاً بسَمْتِهِ. فقالَ لهُ الشيخُ: أعَزَّ اللهُ الواليَ. وجعلَ كعْبَهُ العاليَ. إني كفَلْتُ هذا الغُلامَ فَطيماً. وربّيتُهُ يَتيماً. ثمّ لمْ آلُهُ تعْليماً. فلمّا مهَرَ وبَهَرَ. جرّدَ سيْفَ العُدْوانِ وشَهَرَ. ولمْ إخَلْهُ يلْتَوي عليّ ويتّقِحُ. حينَ يرتَوي مني ويلْتَقِحُ. فقالَ لهُ الفتى: عَلامَ عثَرْتَ مني. حتى تنشُرَ هذا الخِزْيَ عني؟ فوَاللهِ ما ستَرْتُ وجْهَ بِرّكَ. ولا هتَكْتُ حِجابَ سِتْرِكَ. ولا شقَقْتُ عَصا أمرِكَ. ولا ألغَيْتُ تِلاوَةَ شُكْرِكَ. فقالَ لهُ الشيخُ: ويْلَكَ وأيُّ رَيْبٍ أخْزى منْ رَيْبِكَ. وهلْ عيبٌ أفحَشُ منْ عيبِكَ؟ وقدِ ادّعيتَ سِحْري واستَلْحَقتَهُ. وانتحَلْتَ شِعْري واستَرَقتَهُ؟ واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء. أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء. وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ. كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ. فقالَ الوالي للشّيخِ: وهلْ حينَ سرَقَ سلَخَ أم مسخَ. أم نسَخَ؟ فقال: والذي جعلَ الشّعْرَ ديوانَ العرَبِ. وتَرْجُمانَ الأدَبِ. ما أحْدَثَ سوى أن بتَرَ شمْلَ شرْحِهِ. وأغارَ على ثُلُثَيْ سَرْحِهِ. فقال لهُ: أنْشِدْ أبياتَكَ برمّتِها. ليتّضِحَ ما احتازَهُ منْ جُملَتِها. فأنشدَ:

يا خاطِبَ الدّنيا الـدّنِـيّةِ إنّـهـا *** شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكـدارِ

 

دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها *** أبْكَتْ غداً بُعْداً لهـا مـنْ دارِ

وإذا أظَلّ سَحابُها لم ينـتَـقِـعْ *** منْه صدًى لجَهامِـهِ الـغـرّارِ

 

غاراتُها ما تنْقَضي وأسـيرُهـا *** لا يُفتَدى بجـلائِلِ الأخْـطـارِ

 

كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَـدا *** متمَرّداً مُتجـاوِزَ الـمِـقْـدارِ

 

قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأولَغَـتْ *** فيهِ المُدى ونزَتْ لأخْذِ الـثّـارِ

 

فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَـيَّعـاً *** فيها سُدًى من غيرِ ما استِظهارِ

 

واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِـهـا *** تلْقَ الهُدى ورَفـاهَةَ الأسْـرارِ

 

وارْقُبْ إذا ما سالَمتْ من كيدِها *** حرْبَ العَدى وتوثُّبَ الـغَـدّارِ

 

واعْلَمْ بأنّ خُطوبَها تفْجـا ولـوْ *** طالَ المدى ووَنَتْ سُرى الأقدارِ

فقال لهُ الوالي: ثمّ ماذا. صنعَ هذا؟ فقال: أقْدَمَ للُؤمِهِ في الجَزاء. على أبْياتيَ السُداسيّةِ الأجْزاء. فحذَفَ منها جُزءينِ. ونقَصَ منْ أوزانِها وزْنَينِ. حتى صارَ الرُّزْء فيها رُزْءينِ. فقالَ له: بيّنْ ما أخذَ. ومنْ أينَ فلَذَ؟ فقال: أرْعِني سمْعَكَ. وأخْلِ للتّفَهُّمِ عني ذرْعَكَ. حتى تتبيّنَ كيفَ أصْلَتَ عليّ. وتقْدُرَ قدْرَ اجْتِرامِهِ إليّ. ثم أنْشَدَ. وأنفاسُهُ تتصعّد:

يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّـ *** ـةِ إنّها شرَكُ الرّدى

 

دارٌ متى ما أضْحكت *** في يومِها أبْكَتْ غدا

 

وإذا أظَلّ سَحابُـهـا *** لم ينتَقِعْ منْه صدى

 

غاراتُها ما تنْقَضـي *** وأسيرُها لا يُفتَـدى

 

كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها *** حتى بَدا متـمَـرّدا

 

قلَبَتْ لهُ ظـهْـرَ الـمِـجَـ *** ـنّ وأولَغَتْ فـيهِ الـمُـدى

 

فارْبأ بعُـمـرِكَ أن يمُـرّ *** مُضَـيَّعـاً فـيهـا سُـدى

 

واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِها *** تلْــقَ الـــهُـــدى

 

وارْقُبْ إذا ما سـالَـمـتْ *** من كيدِها حرْبَ الـعَـدى

 

واعْلَمْ بـأنّ خُـطـوبَـهـا *** تفْجا ولوْ طـالَ الـمـدى

فالتفَتَ الوالي إلى الغُلامِ وقال: تبّاً لكَ منْ خِرّيجٍ مارِقٍ. وتِلميذٍ سارِقٍ! فقالَ الفَتى: برِئْتُ منَ الأدَبِ وبَنيهِ. ولحِقْتُ بمَنْ يُناويهِ. ويقوّضُ مَبانِيهِ. إنْ كانتْ أبياتُهُ نمَتْ إلى عِلْمي. قبلَ أن ألّفْتُ نظْمي. وإنّما اتّفقَ تواردُ الخَواطِرِ. كما قدْ يقَعُ الحافِرُ على الحافِرِ. قال: فكأنّ الواليَ جوّزَ صِدْقَ زعْمِهِ. فندِمَ على بادِرَةِ ذمّهِ. فظَلّ يُفكّرُ في ما يكْشِفُ لهُ عنِ الحقائِقِ. ويميّزُ بهِ الفائِقَ. منَ المائِقِ. فلمْ يرَ إلا أخْذَهُما بالمُناضَلَةِ. ولزّهُما في قرَنِ المُساجَلَةِ. فقالَ لهُما: إنْ أرَدْتُما افتِضاحَ العاطِلِ. واتّضاحَ الحقّ منَ الباطِلِ. فتَراسَلا في النّظْمِ وتبارَيا. وتَجاوَلا في حلبَةِ الإجازَةِ وتجارَيا. ليهْلِكَ منْ هلَكَ عنْ بيّنَةٍ. ويحْيا مَنْ حَيّ عنْ بيّنَةٍ. فقالا بلِسان واحِدٍ. وجَوابٍ متوارِدٍ: قدْ رضينا بسَبْرِكَ. فمُرْنا بأمرِكَ. فقال: إني مولَعٌ من أنواعِ البَلاغَةِ بالتّجْنيسِ. وأراهُ لها كالرّئيسِ. فانظِما الآنَ عشَرَةَ أبياتٍ تُلحِمانِها بوَشْيِهِ. وتُرَصّعانِها بحَلْيهِ. وضمِّناها شرْحَ حالي. معَ إلْفٍ لي بَديعِ الصّفَةِ. ألمَى الشّفَةِ. مَليحِ التّثَنّي. كثيرِ التّيهِ والتّجَنّي. مُغْرًى بتَناسي العهْدِ. وإطالَةِ الصّدّ. وإخْلافِ الوعْدِ. وأنا لهُ كالعَبْدِ. قال: فبرَزَ الشيخُ مُجَلّياً. وتلاهُ الفَتى مُصَلّياً. وتجارَيا بيْتاً فبَيْتاً على هذا النّسَقِ. إلى أن كمُلَ نظْمُ الأبياتِ واتّسَقَ. وهيَ:

وأحْوَى حَوى رِقّي بـرِقّةِ ثـغْـرِهِ *** وغادَرَني إلْفَ السُّـهـادِ بـغَـدْرِهِ

 

تصدّى لقتْلي بالـصّـدودِ وإنّـنـي *** لَفي أسرِهِ مُذْ حازَ قلبـي بـأسْـرِهِ

 

أصدّقُ منهُ الزّورَ خـوْفَ ازْوِرارِهِ *** وأرْضى استماعَ الهُجرِ خشية هجْرِهِ

 

وأستَعْذِبُ التّعْذيبَ منـهُ وكـلّـمـا *** أجَدّ عذابي جَـدّ بـي حُـبّ بِـرّهِ

 

تَناسى ذِمامي والتّـنـاسـي مـذَمّةٌ *** وأحفَظَ قلْبي وهْوَ حـافِـظُ سِـرّهِ

 

وأعجَبُ ما فيهِ التّباهي بـعُـجْـبِـهِ *** وأكْبِرُهُ عـنْ أنْ أفـوهَ بـكِـبـرِهِ

 

لهُ منّيَ المدْحُ الذي طـابَ نـشْـرُهُ *** ولي منهُ طيُّ الوِدّ من بعْدِ نـشْـرِهِ

 

ولوْ كان عدلاً ما تجنّى وقد جَـنـى *** عليّ وغيري يجتَني رشْفَ ثـغـرِهِ

 

ولوْلا تثَـنّـيهِ ثـنَـيْتُ أعـنّـتـي *** بِداراً إلى منْ أجْتَلـي نـورَ بـدرِهِ

 

وإني على تصْريفِ أمـري وأمـرِهِ *** أرى المُرّ حُلواً في انقِيادي لأمـرِهِ

 

فلمّا أنشَداها الوالي مُتراسِلَينِ. بُهِتَ لذَكاءيْهِما المُتعادِلَينِ. وقال: أشهَدُ باللهِ أنّكُم فرْقَدا سماءٍ. وكزَنْدَينِ في وعاءٍ. وأنّ هذا الحدَثَ ليُنْفِقُ ممّا آتاهُ اللهُ. ويستَغْني بوُجْدِهِ عمّنْ سِواهُ. فتُبْ أيها الشيخُ منِ اتّهامِهِ. وثُبْ إلى إكْرامِهِ. فقالَ الشيخُ: هيهاتَ أن تُراجِعَهُ مِقَتي. أو تعْلَقَ بهِ ثِقَتي! وقدْ بلَوْتُ كُفْرانَهُ للصّنيعِ. ومُنيتُ منهُ بالعُقوقِ الشّنيعِ. فاعتَرَضَهُ الفتى وقال: يا هذا إنّ اللّجاجَ شؤمٌ. والحنَقَ لؤمٌ. وتحقيقَ الظِّنّةِ إثمٌ. وإعْناتَ البَريء ظُلمٌ. وهَبْني اقترَفْتُ جَريرةً. أوِ اجتَرَحْتُ كَبيرةً. أمَا تذْكُرُ ما أنشَدْتَني لنفسِكَ. في إبّانِ أُنسِكَ:

سامِحْ أخاكَ إذا خلَـطْ *** منهُ الإصابَةَ بالغلَـطْ

وتجافَ عنْ تعْنـيفِـه *** إنْ زاغَ يوماً أو قسَطْ

واحفَظْ صَنيعَكَ عنـدَه *** شكرَ الصّنيعَةَ أم غمَطْ

وأطِعْهُ إنْ عاصَى وهُـنْ *** إنْ عَزّ وادْنُ إذا شـحَـطْ

 

واقْنَ الـوَفـاءَ ولَـوْ أخـ *** ـلّ بما اشترَطْتَ وما شرَطْ

 

واعْلَمْ بأنّـكَ إن طـلـبْـ *** ـتَ مهذَّباً رُمتَ الشّطَـطْ

 

منْ ذا الذي مـا سـاء قـ *** ـطُّ ومنْ لهُ الحُسْنى فقـطْ

 

أوَمَا تَرى المَحْبـوبَ والـ *** مَكروهَ لُزّا فـي نـمَـطْ

 

كالشّوْكِ يبْدو في الغُصـو *** نِ معَ الجَنيّ المُلتَـقَـطْ

 

ولَذاذَةُ العُمـرِ الـطّـويـ *** ـلِ يَشوبُها نغَصُ الشّمَـطْ

 

ولوِ انتقَدْتَ بَنـي الـزّمـا *** نِ وجَدتَ أكثرَهُم سقَـطْ

 

رُضْتُ البَلاغَةَ والـبَـرا *** عَةَ والشّجاعَةَ والخِطَـطْ

 

فوجَدتُ أحسـنَ مـا يُرى *** سبْرَ العُلومِ معـاً فـقـطْ

قال: فجعَلَ الشيخُ يُنَضْنِضُ نضْنَضَةَ الصِّلّ. ويُحملِقُ حملَقَةَ البازي المُطِلّ. ثمّ قال: والذي زيّنَ السّماء بالشُّهُبِ. وأنزلَ الماء من السُّحُبِ. ما روْغي عنِ الاصْطِلاحِ. إلا لتَوْقّي الافتِضاحِ. فإنّ هذا الفتى اعْتادَ أن أمونَهُ. وأُراعيَ شُؤونَهُ. وقد كانَ الدهرُ يسُحّ. فلمْ أكُنْ أشُحّ. فأمّا الآنَ فالوقْتُ عَبوسٌ. وحشْوُ العيْشِ بوسٌ. حى إنّ بِزّتي هذه عارَةٌ. وبيْتي لا تَطورُ بهِ فارَةٌ. قال: فرَقّ لمَقالِهما قلبُ الوالي. وأوى لهُما من غِيَرِ اللّيالي. وصَبا إلى اختِصاصِهِما بالإسعافِ. وأمرَ النّظّارَةَ بالانصِرافِ. قال الرّاوي: وكُنتُ متشوّفاً إلى مرْأى الشيخِ لعلّي أعلَمُ عِلمَهُ. إذا عاينْتُ وَسْمَهُ. ولم يكُنِ الزّحامُ يسفِرُ عنْهُ. ولا يُفرَجُ لي فأدنوَ منهُ. فلما تقوّضَتِ الصّفوفُ. وأجفَلَ الوقوفُ. توسّمْتُهُ فإذا هو أبو زيدٍ والفتى فتاهُ. فعرَفْتُ حينئذ مغْزاهُ في ما أتاهُ. وكِدْتُ أنقَضُّ عليهِ. لأستعْرِفَ إلَيهِ. فزجَرَني بإيماضِ طرْفِهِ. واستَوقفَني بإيماء كفّهِ. فلزِمْتُ موقِفي. وأخّرْتُ منصَرَفي. فقال الوالي: ما مَرامُكَ. ولأي سببٍ مُقامُكَ؟ فابتدَرَهُ الشيخُ وقال: إنهُ أنيسي. وصاحِبُ ملْبوسي. فتسمّحَ عندَ هذا القولِ بتأنيسي. ورخّصَ في جُلوسي. ثمّ أفاضَ عليهِما خِلعتَينِ. ووصلَهُما بنِصابٍ منَ العينِ. واستعْهَدَهُما أن يتَعاشَرا بالمعروفِ. إلى إظْلالِ اليوم المَخوفِ. فنَهضا منْ نادِيهِ. مُنشِدَينِ بشُكْرِ أياديهِ. وتبعْتُهُما لأعرِف مثواهُما. وأتزوّدَ من نجْواهُما. فلمّا أجَزْنا حِمى الوالي. وأفضَيْنا إلى الفضاءِ الخالي. أدركَني أحدُ جلاوِزَتِه. مُهيباً بي إلى حوزَتِه. فقلتُ لأبي زيدٍ: ما أظنّهُ استَحْضَرَني. إلا ليَستَخبِرَني. فماذا أقولُ. وفي أيّ وادٍ معَهُ أجولُ؟ فقال: بيّنْ لهُ غَباوَةَ قلبِهِ. وتلْعابي بلُبّهِ. ليعْلَمَ أنّ ريحَهُ لاقَتْ إعصاراً. وجدوَلَهُ صادَفَ تيّاراً. فقلتُ: أخافُ أن يتّقدَ غضَبُهُ. فيلْفَحَكَ لهَبُهُ. أو يستَشْريَ طيْشُهُ. فيسرِيَ إليكَ بطْشُهُ. فقال: إني أرحَلُ الآن إلى الرُّهى. وأنّى يلْتَقي سُهَيلٌ والسُّهَى؟ فلمّا حضرْتُ الواليَ وقد خَلا مجلِسُهُ. وانجلَى تعبُّسُهُ. أخذ يصِفُ أبا زيدٍ وفضلَهُ. ويذُمّ الدهرَ لهُ. ثمّ قال: نشَدْتُك اللهَ ألَسْتَ الذي أعارَهُ الدَّسْتَ؟ فقلت: لا والذي أحلّكَ في هذا الدَّسْتِ. ما أنا بصاحِبِ ذلِك الدّسْتِ. بل أنت الذي تمّ عليهِ الدّسْتُ. فازْوَرّتْ مُقلَتاهُ. واحمرّتْ وجْنَتاهُ. وقال: واللهِ ما أعجزَني قطُّ فضْحُ مُريبٍ. ولا تكْشِيفُ مَعيبٍ. ولكِنْ ما سمِعْتُ بأنّ شيخاً دلّسَ. بعدَما تطلّسَ. وتقلّسَ. فبِهذا تمّ لهُ أنْ لبّسَ. أفتَدْري أينَ سكَعَ. ذلِك اللُّكَعُ؟ قلت: أشفَقَ منْكَ لتَعَدّي طورِهِ. فظعَنَ عنْ بغْدغدَ منْ فورِهِ. فقال: لا قرّبَ اللهُ لهُ نَوى. ولا كلأهُ أينَ ثوَى. فما زاوَلْتُ أشَدّ منْ نُكرِهِ. ولا ذُقْتُ أمَرّ منْ مكْرِهِ. ولوْلا حُرمَةُ أدبِهِ. لأوْغَلْتُ في طلَبِهِ. إلى أن يقَعَ في يَدي فأُوقِعَ به. وإني لأكرَهُ أن تَشيعَ فَعْلتُهُ بمدينةِ السّلامِ. فأفتَضِحَ بينَ الأنامِ. وتحْبَطَ مكانَتي عندَ الإمامِ. وأصيرَ ضُحْكَةً بين الخاصّ والعامّ. فعاهَدني على أن لا أفوهَ بما اعتَمَدَ. ما دُمْتُ حِلاًّ بهذا البلَدِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فعاهدْتُهُ مُعاهدَةَ منْ لا يتأوّلُ. ووَفَيْتُ لهُ كما وَفى السّمَوْألُ.

==================

مقامات الحريري/المقامة الشيرازية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: مرَرْتُ في تَطْوافي بشِيرازَ. علي نادٍ يستَوقِفُ المُجْتازَ. ولوْ كان على أوْفازٍ. فلمْ أستَطِعْ تعَدّيهِ. ولا خطَتْ قدَمي في تخَطّيهِ. فعُجْتُ إليْهِ لأسْبُكَ سِرَّ جوهَرِهِ. وأنظُرَ كيفَ ثمَرُهُ من زَهَرِهِ. فإذا أهْلُهُ أفْرادٌ. والعائِجُ إلَيْهِمْ مُفادٌ. وبينَما نحنُ في فُكاهَةٍ أطْرَبَ منَ الأغاريدِ. وأطيَبَ منْ حلَبِ العَناقيدِ. إذِ احتَفّ بِنا ذو طِمْرَينِ. قد كاد يُناهِزُ العُمْرَينِ. فحيّا بلِسانٍ طَليقٍ. وأبانَ إبانَةَ مِنطيقٍ. ثمّ احتَبى حُبوَةَ المُنتَدينَ. وقال: اللهُمّ اجْعَلْنا منَ المُهتَدينَ. فازْدَراهُ القومُ لطِمْرَيْهِ. ونَسوا أنّ المرءَ بأصغَرَيْهِ. وأخَذوا يتَداعَوْنَ فصْلَ الخِطابِ. ويعْتدّونَ عودَهُ من الأحْطابِ. وهوَ لا يُفيصُ بكلِمَةٍ. ولا يُبينُ عنْ سِمَةٍ. إلى أنْ سبَرَ قرائِحَهُمْ. وخبَرَ شائِلَهُمْ وراجِحَهُمْ. فحينَ استخْرَجَ دفائِنَهُمْ. واستَنْثَلَ كنائِنَهُمْ. قال: يا قومُ لوْ علِمْتُمْ أنّ وراء الفِدامِ. صَفْوَ المُدامِ. لَما احتقَرْتُمْ ذا أخْلاقٍ. وقُلتُمْ ما لَهُ منْ خَلاقٍ! ثمّ فجّرَ منْ ينابيعِ الأدَبِ والنُكَتِ النُّخَبِ. ما جلَبَ بهِ بَدائعَ العجَبِ. واستَوْجَبَ أن يُكتَبَ بذَوْبِ الذّهَبِ. فلمّا خلَبَ كُلَّ خِلْبٍ. وقلَبَ إليْهِ كلَّ قلْبٍ. تحلْحَلَ. ليَرْحَلَ. وتأهّبَ. ليَذْهَبَ. فعلِقَتِ الجماعَةُ بذَيلِهِ. وعاقَتْ مسْرَبَ سيْلِهِ. وقالتْ لهُ: قد أرَيْتَنا وسْمَ قِدْحِكَ. فخبّرْنا عنْ قَيضِكَ ومُحّكَ. فصمَتَ صُموتَ مَنْ أُفحِمَ. ثمّ أعْوَلَ حتى رُحِمَ. قال الراوي: فلما رأيتُ شوْبَ أبي زيدٍ ورَوْبَهُ. وأسلوبَهُ المألوفَ وصَوْبَهُ. تأمّلْتُ الشيخَ على سُهومَةِ مُحَيّاهُ. وسُهوكَةِ ريّاهُ. فإذا هوَ إيّاهُ. فكتَمْتُ سِرّهُ كما يُكتَمُ الداءُ الدّخيلُ. وستَرْتُ مكرَهُ وإنْ لمْ يكُنْ يُخيلُ. حتى إذا نزَعَ عنْ إعْوالِهِ. وقدْ عرَفَ عُثوري على حالِهِ. رمَقَني بعَينِ مِضْحاكٍ. ثمّ طَفِقَ يُنشِدُ بلِسانِ مُتباكٍ:

أستَغْفِرُ الـلـهَ وأعْـنـو لـهُ *** منْ فرَطاتٍ أثقَلَتْ ظَهْـريَهْ

يا قوْمُ كمْ منْ عاتِقٍ عـانـسٍ *** ممدوحَةِ الأوْصافِ في الأنديَهْ

 

قتَلْتُـهـا لا أتّـقـي وارِثـاً *** يطْلُبُ مـنـي قـوَداً أو دِيَهْ

 

وكلّما استَذْنَبْتُ في قتْـلِـهـا *** أحَلْتُ بالذّنْبِ على الأقْضِـيَهْ

 

ولمْ تزَلْ نفسي فـي غَـيّهـا *** وقتْلِها الأبكارَ مُسـتَـشْـرِيَهْ

 

حتى نَهاني الشّيبُ لـمّـا بَـدا *** في مَفْرِقي عنْ تِلكمُ المَعصِيَهْ

 

فلمْ أُرِقْ مُذْ شابَ فَوْدي دمـاً *** منْ عاتِقٍ يوماً ولا مُصْـبِـيَهْ

 

وها أنا الآن علـى مـا يُرى *** مني ومِنْ حِرْفَتي المُـكـدِيَهْ

 

أرُبُّ بِكْراً طالَ تعْنـيسُـهـا *** وحجْبُها حتى عـنِ الأهـويَهْ

 

وهْيَ على التّعنيسِ مخطـوبَةٌ *** كخِطبَةِ الغانِيَةِ الـمُـغْـنِـيَهْ

 

وليسَ يكْفيني لتَـجْـهـيزِهـا *** على الرّضى بالدّونِ إلا مِـيَهْ

 

واليَدُ لا توكي علـى دِرْهَـمٍ *** والأرضُ قفْرٌ والسّما مُصْحِيَهْ

 

فهلْ مُعينٌ لي على نقـلِـهـا *** مصْحوبَةً بالقَيْنَةِ المُـلْـهِـيَهْ

 

فيغْسِلَ الهـمّ بـصـابـونِـهِ *** والقلْبُ من أفكارِهِ المُضْنِـيَهْ

 

ويقْتَني مني الـثّـنـاءَ الـذي *** تَضُـوعُ ريّاهُ مـعَ الأدْعِـيَهْ

قال الراوي: فلمْ يبْقَ في الجَماعَةِ إلا منْ ندِيَتْ لهُ كفُّهُ. وانْباعَ إليْهِ عُرْفُهُ. فلمّا نجَحَتْ بُغيَتُهُ. وكمَلَتْ مِئَتُهُ. أخذَ يُثْني عليْهِمْ بصالِحٍ. ويشمِّرُ عنْ ساقِ سارحٍ. فتَبِعْتُهُ لأستَعْرِفَ رَبيبَةَ خِدْرِهِ. ومنْ قتَلَ في حِدْثانِ أمرِهِ. فكأنّ وشْكَ قِيامي. مثّلَ لهُ مَرامي. فازْدَلَفَ مني. وقال: افْقَهْ عني:

قتْلُ مِثلي يا صاحِ مزْجُ المُدامِ *** ليسَ قتْلي بلَهْـذَمٍ أو حُـسـامِ

 

والتي عُنسَتْ هيَ البكرُ بنتُ ال *** كَرْمِ لا البِكْرُ من بَناتِ الكِرامِ

 

ولتَجْهيزِها إلى الـكـاسِ والـطّـا *** سِ قِيامي الذي تَرى ومُـقـامـي

 

فتَفَهّـمْ مـا قُـلـتُـهُ وتـحَـكّـمْ *** في التّغاضي إنْ شِئتَ أو في المَلامِ

ثمّ قال: أنا عِرْبيدٌ. وأنتَ رِعْديدٌ. وبيْنَنا بوْنٌ بَعيدٌ. ثمّ ودّعَني وانطَلَقَ. وزوّدَني نظرَةً منْ ذي علَقٍ.

=====================

مقامات الحريري/المقامة الصعدية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أصْعَدْتُ إلى صَعْدَةَ. وأنا ذو شَطاطٍ يحْكي الصّعْدَةَ. واشتِدادٍ يبدُرُ بناتِ صَعدةَ. فلمّا رأيتُ نَضرتَها. ورعَيْتُ خُضرتَها. سألتُ نَحاريرَ الرّواةِ. عمّنْ تحْويهِ منَ السَّراةِ. ومعادِنِ الخيْراتِ. لأتّخِذَهُ جَذْوَةً في الظُلُماتِ. ونَجدَةً في الظُّلاماتِ. فنُعِتَ لي قاضٍ بها رحيبُ الباعِ. خَصيبُ الرِّباعِ. تَميميُّ النّسَبِ والطّباعِ. فلمْ أزَلْ أتقرَّبُ إليْهِ بالإلْمامِ. وأتَنَفّقُ عليهِ بالإجْمامِ. حتى صِرْتُ صَدى صَوْتِهِ. وسَلْمانَ بيتِهِ. وكنتُ معَ اشْتِيارِ شَهْدِهِ. وانتِشاقِ رَنْدِهِ. أشْهَدُ مَشاجِرَ الخُصومِ. وأسفِرُ بينَ المَعصومِ منهُمْ والموْصومِ. فبَينَما القاضي جالِسٌ للإسْجالِ. في يومِ المحْفِلِ والاحتِفالِ. إذ دخَلَ شيخٌ بالي الرّياشِ. بادِي الارتِعاشِ. فتبصّرَ الحفْلَ تبصُّرَ نقّادٍ. ثم زعَمَ أنّ لهُ خصْماً غيرَ مُنقادٍ. فلمْ يكُنْ إلا كضَوْء شَرارَةٍ. أو وحْيِ إشارٍه. حتى أُحضِرَ غُلامٌ. كأنّهُ ضِرْغامٌ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. وعصَمَهُ منَ التّغاضي. إنّ ابْني هذا كالقَلَمِ الرّديّ. والسيفِ الصّدِيّ. يجهَلُ أوْصافَ الإنصافِ. ويرْضَعُ أخلافَ الخِلافِ. إنْ أقدَمتُ أحجَمَ. وإذا أعرَبْتُ أعجَمَ. وإنْ أذْكَيْتُ أخْمَدَ. ومتى شوَيتُ رمّدَ. معَ أنّي كفَلْتُهُ مُذْ دَبّ. إلى أن شبّ. وكنتُ لهُ ألْطَفَ مَنْ ربّى ورَبَّ. فأكْبَرَ القاضي ما شَكا إليْهِ. وأطْرَفَ بهِ منْ حَوالَيْهِ. ثمّ قال: أشْهَدُ أنّ العُقوقَ أحدُ الثُّكْلَينِ. ولَرُبّ عُقْمٍ أقَرُّ للعَينِ. فقالَ الغُلامُ. وقد أمعَضَهُ هذا الكلامُ: والذي نصَبَ القُضاةَ للعدْلِ. وملّكَهُمْ أعِنّةَ الفضْلِ والفَصْلِ. إنّه ما دَعا قَطُّ إلا أمّنْتُ. ولا ادّعى إلا آمَنْتُ. ولا لَبّى إلا أحْرَمْتُ. ولا أوْرَى إلا أضْرَمْتُ. بيْدَ أنهُ كمَنْ يبْغي بيْضَ الأنُوقِ. ويطْلُبُ الطّيَرانَ منَ النّوقِ! فقالَ لهُ القاضي: وبِمَ أعْنَتَكَ. وامتَحَنَ طاعتَكَ؟ قال: إنهُ مُذْ صَفِرَ منَ المالِ. ومُنِيَ بالإمْحالِ. يسومُني أنْ أتلَمّظَ بالسّؤالِ. وأستَمْطِرَ سُحْبَ النّوالِ. ليَفيضَ شِربُهُ الذي غاضَ. وينْجَبرَ منْ حالِهِ ما انْهاضَ. وقد كانَ حينَ أخذَني بالدّرْسِ. وعلّمَني أدَبَ النّفْسِ. أشْرَبَ قلْبي أنّ الحِرْصَ مَتعَبَةٌ. والطّمَعَ معْتَبَةٌ. والشَّرَهُ مَتْخَمَةٌ. والمسألَةَ مَلأمَةٌ. ثمّ أنشدَني منْ فلْقِ فيهِ. ونحْتِ قَوافيهِ:

إرْضَ بأدنى العيشِ واشْكُرْ عليْهِ *** شُكْرَ منِ القُـلُّ كـثـيرٌ لـدَيْهْ

وجانِبِ الحِرصَ الـذي لـم يزَلْ *** يحُطُّ قدْرَ المُـتَـراقـي إلَـيْهْ

 

وحامِ عنْ عِرضِكَ واستَـبْـقِـهِ *** كما يُحامي اللّيْثُ عنْ لِبْـدتَـيْهْ

 

واصْبِرْ على ما نابَ مـنْ فـاقَةٍ *** صبْرَ أولي العزْمِ وأغمِضْ عليْهْ

ولا تُرِقْ ماء الـمُـحَـيّا ولـوْ *** خوّلَكَ المسْؤولُ مـا فـي يدَيْهْ

 

فالحُرُّ مَـنْ إنْ قَـذيَتْ عـينُـهُ *** أخْفى قَذى جَفنَيْهِ عن ناظِـرَيْهْ

ومَـنْ إذا أخْـلَـقَ ديبـاجُــهُ *** لمْ يرَ أنْ يُخْلِـقَ ديبـاجَـتَـيْهْ

قال: فعبَسَ الشيخُ واكفهَرّ. وانْدرَأ على ابنِهِ وهرّ. وقال لهُ: صَهْ يا عُقَقُ. يا مَنْ هوَ الشّجَى والشَّرَقُ! ويْكَ أتُعَلّمُ أمّكَ البِضاعَ. وظِئْرَكَ الإرْضاعَ؟ لقدْ تحكّكَتِ العقْرَبُ بالأفعى. واستَنّتِ الفِصالُ حتى القَرْعى! ثمّ كأنّهُ ندِمَ على ما فرَطَ منْ فيهِ. وحدَتْهُ المِقَةُ على تَلافِيهِ. فرَنا إلَيْهِ بعينِ عاطِفٍ. وخفضَ لهُ جناحَ مُلاطِفٍ. وقال لهُ: ويْكَ يا بُنيّ إنّ مَنْ أُمِرَ بالقَناعَةِ. وزُجِرَ عنِ الضّراعَةِ. هُمْ أرْبابُ البِضاعَةِ. وأولُو المَكسَبَةِ بالصّناعَةِ. فأمّا ذَوو الضّروراتِ. فقدِ استُثْنيَ بهِمْ في المَحْظوراتِ. وهبْكَ جهِلْتُ هذا التّأويلَ. ولمْ يبلُغْكَ ما قيلَ. ألسْتَ الذي عارَضَ أباهُ. في ما قالَ وما حاباهُ:

لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْـغَـبَةٍ *** لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ

 

وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّـلةٌ *** منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَـرُ

فعَدِّ عمّا تُـشـيرُ الأغْـبِـياءُ بـهِ *** فأيُّ فضْلٍ لعودٍ مـا لـهُ ثـمَـرُ

 

وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به *** إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ

 

واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ *** بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الـظّـفَـرُ

 

وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَـصَةٌ *** عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ

قال: فلما أنْ رأى القاضي تَنافيَ قولِ الفتى وفِعلِهِ. وتحلّيَهُ بما ليسَ منْ أهلِهِ. نظَرَ إليْهِ بعَينٍ غَضْبى. وقال: أتَميميّاً مرّةً وقَيسِيّاً أخرى؟ أُفٍّ لمَنْ ينقُضُ ما يَقولُ. ويتلوّنُ كما تتلوّنُ الغولُ! فقال الغُلامُ: والذي جعلَكَ مِفْتاحاً للحَقّ. وفتّاحاً بينَ الخَلْقِ. لقدْ أُنسيتُ مُذْ أسِيتُ. وصَدِئ ذِهْني مُذْ صَديتُ. على أنّهُ أينَ البابُ الفُتُحُ. والعَطاءُ السُّرُحُ؟ وهلْ بقيَ منْ يتبرّعُ باللُّهى. وإذا استُطْعِمَ يقولُ ها؟ فقالَ لهُ القاضي: مَهْ! فمَعَ الخَواطئ سهْمٌ صائِبٌ. وما كُلُّ برْقٍ خالِبٌ. فميّزِ البُروقَ إذا شِمْتَ. ولا تشْهَدْ إلا بما علِمْتَ. فلمّا تبيّنَ للشّيخِ أنّ القاضيَ قدْ غضِبَ للكِرامِ. وأعْظَمَ تبْخيلَ جميعِ الأنامِ. علِمَ أنّهُ سينصُرُ كلِمَتَهُ. ويُظهِرُ أُكرومَتَهُ. فما كذّبَ أنْ نصَبَ شبكَتَهُ. وشوَى في الحَريقِ سمكَتَهُ. وأنْشأ يقول:

يا أيّها القاضي الذي عِلـمُـهُ *** وحِلمُهُ أرسَخُ منْ رَضْـوَى

 

قدِ ادّعى هَذا على جـهـلِـهِ *** أنْ ليسَ في الدُنيا أخو جَدوى

 

وما دَرَى أنكَ منْ معـشَـرٍ *** عطاؤهُمْ كالمَنِّ والسّـلْـوى

 

فجُدْ بِم يَثْنيهِ مُـسـتَـخـزِياً *** مما افتَرى من كذِبِ الدّعوى

 

وأنثَني جَذْلانَ أُثْـنـي بـمـا *** أولَيتَ من جَدوى ومن عَدوى

 

قال: فهَشّ القاضي لقولِهِ. وأجزَلَ لهُ منْ طولِهِ. ثمّ لفتَ وجهَهُ إلى الغُلامِ. وقد نصَلَ لهُ أسهُمَ المَلامِ. وقال لهُ: أرأيْتَ بُطْلَ زعْمِكَ. وخطَأَ وهْمِكَ؟ فلا تَعجَلْ بعدَها بذَمّ. ولا تنْحَتْ عوداً قبلَ عجْمٍ. وإيّاكَ وتأبّيكَ. عن مُطاوَعَةِ أبيكَ! فإنّكَ إنْ عُدتَ تعُقُّهُ. حاقَ بكَ مني ما تستحِقُّهُ. فسُقِطَ الفَتى في يدِهِ. ولاذَ بحِقْوِ والِدِهِ. ثمّ نهضَ يُحفِدُ. وتبِعَهُ الشيخُ يُنشدُ:

منْ ضامَهُ أو ضارَهُ دهرُهُ *** فلْيَقْصِدِ القاضيَ في صَعْدَهْ

 

سمَاحُهُ أزْرى بمَنْ قبـلَـهُ *** وعدْلُهُ أتْعَبَ مَنْ بـعْـدَهْ

 

قال الرّاوي: فحِرْتُ بينَ تعْريفِ الشيخِ وتنْكيرِهِ. إلى أنِ احْرَورَفَ لمَسيرِهِ. فناجَيْتُ النّفْسَ باتّباعِهِ. ولوْ إلى رِباعِهِ. لعَلّي أظهَرُ على أسرارِهِ. وأعْرِفُ شجرَةَ نارِهِ. فنبَذْتُ العُلَقَ. وانطلَقْتُ حيثُ انطلَقَ. ولم يزَلْ يخْطو وأعْتَقِبُ. ويبْعُدُ وأقتَرِبُ. إلى أن تَراءى الشّخْصانِ. وحقّ التّعارُفُ على الخُلْصانِ. فأبْدى حينَئِذٍ الاهْتِشاشَ. ورفَعَ الارتِعاشَ. وقال: منْ كاذَبَ أخاهُ فلا عاشَ! فعرَفْتُ عندَ ذلِكَ أنهُ السَّروجيُّ بِلا مَحالَةٍ. ولا حُؤولِ حالَةٍ. فأسرَعْتُ إليْهِ لأصافِحَهُ. وأستَعْرِفَ سانِحَهُ وبارِحَهُ. فقال: دونَكَ ابنَ أخيكَ البَرَّ. وترَكَني ومَرَّ. فلمْ يعْدُ الفتَى أنِ افْتَرّ. ثمّ فَرّ كما فَرّ. فعُدْتُ وقد استَبَنْتُ عينَهُما. ولكِنْ أينَ هُما.

=====================

مقامات الحريري/المقامة الصنعانية

حدث الحارث بن همام قال: لما اقتعدت غارب الاغتراب، وأنأتني المتربة عن الأتراب، طوّحت بي طوائحُ الزمنِ. إلى صنْعاء اليَمَنِ. فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ. باديَ الإنْفاضِ. لا أملكُ بُلْغَةً. ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً. فطَفِقْتُ أجوبُ طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ. وأجولُ في حَوْماتِها جَوَلانَ الحائِمِ. وأرُودُ في مَسارحِ لمَحاتي. ومَسايِحِ غدَواتي ورَوْحاتي. كريماً أُخْلِقُ لهُ ديباجتي. وأبوحُ إلَيْهِ بحاجتي. أو أديباً تُفَرّجُ رؤيَتُه غُمّتي. وتُرْوي رِوايتُه غُلّتي. حتى أدّتْني خاتمةُ المطافِ. وهدَتْني فاتِحةُ الألْطافِ. إلى نادٍ رَحيبٍ. مُحتَوٍ على زِحامٍ ونَحيبٍ. فوَلَجْتُ غابةَ الجمْعِ. لأسْبُرَ مَجْلَبَةَ الدّمْعِ. فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ. شخْصاً شخْتَ الخِلْقَةِ. عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ. وله رنّةُ النِّياحَةِ. وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ. ويقْرَعُ الأسماعَ بزواجرِ وعْظِهِ. وقدْ أحاطت به أخلاطُ الزُّمَرِ. إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ. والأكْمامِ بالثّمرِ. فدَلَفْتُ إليهِ لأقْتَبِسَ من فوائدِه. وألْتَقِطَ بعْضَ فرائدِه. فسمعتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه. وهَدَرَتْ شَقاشِقُ ارتِجالِه. أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ. السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ. الجامحُ في جَهالاتِهِ. الجانِحُ إلى خُزَعْبِلاتِه. إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ. وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ؟ وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ. ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ؟ تُبارِزُ بمعصيتكَ. مالِكَ ناصِيَتِكَ! وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك. على عالِمِ سريرتِكَ! وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ. وأنتَ بمرأى رقيبِكَ! وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ. إذا آنَ ارتِحالُكَ؟ أو يُنْقِذُكَ مالُكَ. حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ. إذا زلّتْ قدَمُكَ؟ أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ. يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ؟ هلاّ انتَهَجْتَ مَحَجّةَ اهتِدائِكَ. وعجّلْتَ مُعالجَةَ دائِكَ. وفَلَلْتَ شَباةَ اعتِدائِكَ. وقدَعْتَ نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ؟ أما الحِمام ميعادُكَ. فما إعدادُكَ؟ وبالمَشيبِ إنذارُكَ. فما أعذارُكَ؟ وفي اللّحْدِ مَقيلُكَ. فما قِيلُكَ؟ وإلى اللّه مَصيرُكَ. فمَن نصيرُكَ؟ طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ. وجذبكَ الوعْظُ فتقاعستَ! وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ. وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ. وأذْكَرَكَ الموتُ فتناسيتَ. وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ! تُؤثِرُ فِلساً توعِيهِ. على ذِكْرٍ تَعيهِ. وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ. على بِرٍ تُولِيهِ. وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ . إلى زادٍ تَستَهْديهِ. وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ. على ثوابٍ تشْتَريهِ. يَواقيتُ الصِّلاتِ. أعْلَقُ بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ الصّلاةِ. ومُغالاةُ الصَّدُقاتِ. آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ الصَّدَقاتِ. وصِحافُ الألْوانِ. أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ. ودُعابَةُ الأقرانِ. آنَسُ لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ! تأمُرُ بالعُرْفِ وتَنتَهِكُ حِماهُ. وتَحْمي عنِ النُّكْرِ ولا تَتحاماهُ! وتُزحزِحُ عنِ الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ. وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ! ثمّ أنْشَدَ:

تباً لطالِـبِ دُنْـيا *** ثَنى إلَيها انصِبابَهْ

ما يسْتَفيقُ غَراماً *** بها وفَرْطَ صَبابَهْ

ولوْ دَرى لَكفَـاهُ *** مما يَرومُ صُبابَهْ

ثم إنهُ لبّدَ عَجاجَتَهُ. وغيّضَ مُجاجتَهُ. واعْتَضَدَ شكْوَتَهُ. وتأبّطَ هِراوَتَهُ. فلمّا رنَتِ الجَماعَةُ إلى تحفُّزِهِ. ورأتْ تأهُّبَهُ لمُزايَلَةِ مركَزِهِ. أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ. فأفْعَمَ لهُ سَجْلاً منْ سَيْبِه. وقال: اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ. أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ. فقبِلَهُ منهُم مُغضِياً. وانْثَنى عنْهُم مُثْنِياً. وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ. ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ. ويُسرّبُ منْ يتْبَعُهُ. لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ. قال الحارِثُ بنُ هَمّامٍ: فاتّبعْتُهُ مُوارِياً عنْهُ عِياني. وقَفوْتُ أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني. حتّى انْتَهى إلى مَغارَةٍ. فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ. فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ. وغسَل رِجلَيْهِ. ثمّ هجَمْتُ علَيهِ. فوجدتُهُ مُشافِناً لتِلْميذٍ. على خبْزِ سَميذٍ. وجَدْيٍ حَنيذٍ. وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ. فقلتُ لهُ: يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ. وهذا مَخْبَرَكَ؟ فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ. وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ. ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ. حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ. فلمّا أن خبَتْ نارُهُ. وتَوارَى أُوارُهُ. أنْشَد:

لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَـهْ *** وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَـه

 

وصيّرتُ وعْـظـيَ أُحـبـولَةً *** أُريغُ القَنيصَ بها والقَـنـيصَـه

 

وألْجأني الدّهْرُ حتـى ولَـجْـتُ *** بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه

 

على أنّني لـم أهَـبْ صـرفَـهُ *** ولا نبَضَتْ لي مِنْـهُ فَـريصَـه

 

ولا شرَعت بي عـلـى مَـورِدٍ *** يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَـريصَـه

 

ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكـمِـهِ *** لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقـيصَـه

ثمّ قال ليَ: ادْنُ فكُلْ. وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ. فالتَفَتّ إلى تِلميذِه وقُلتُ: عزَمْتُ عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى. لتُخْبرَنّي مَنْ ذا. فقال: هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء. وتاجُ الأدَباء. فانصرَفْتُ من حيثُ أتيتُ. وقضَيْتُ العجَبَ ممّا رأيْتُ.

==========================

مقامات الحريري/المقامة الصورية

حكى الحارثُ بنُ همّام قال: ارْتَحلْتُ من مدينةِ المنصورِ. إلى بلدَةِ صورٍ. فلمّا حصلْتُ به ذا رِفعَةٍ وخفْضٍ. ومالِكَ رفْعٍ وخفضٍ. تُقْتُ إلى مِصْرَ توَقانَ السّقيمِ إلى الأُساةِ. والكريمِ إلى المؤاساةِ. فرفَضْتُ علائِقَ الاستِقامَةِ. ونفَضْتُ عوائِقَ الإقامةِ. واعْرَوْرَيْتُ ظَهْرَ ابنِ النّعامَةِ. وأجفَلْتُ نحوَها إجْفالَ النّعامَةِ. فلمّا دخلْتُه بعدَ مُعاناةِ الأينِ. ومُداناةِ الحَيْنِ. كلِفْتُ به كلَفَ لنّشْوانِ بالاصْطِباحِ. والحَيَرانِ بتنفُّسِ الصّباحِ. فبَينَما أنا يوْمً به أطوفُ. وتحْتي فرسٌ قَطوفٌ. إذ رأيتُ على جُرْدٍ منَ الخيْلِ. عُصبَةً كمَصابيحِ الليْلِ. فسألْتُ لانتِجاعِ النّزْهَةِ. عنِ العُصبَةِ والوِجهَةِ. فقيلَ: أما القومُ فشُهودٌ. وأمّا المقْصِدُ فإمْلاكٌ مشهودٌ. فحدَتْني مَيعَةُ النّشاطِ. على أنْ سِرْتُ معَ الفُرّاطِ. لأفوز بحلاوَةِ اللُّقَاطِ. وأحوزَ حَلْواءَ السِّماطِ. فأفْضيْنا بعدَ مُكابدَةِ العَناء. إلى دارٍ رفيعَةِ البِناء. وسيعَةِ الفِناء. تشهَدُ لِبانيها بالثّراء والسّناء. فلمّا نزلْنا عنْ صهَواتِ الخُيولِ. وقدّمنا الأقْدامَ للدّخولِ. رأيتُ دِهْليزَها مُجَلّلاً بأطْمارٍ مُخرّقةٍ. ومُكلّلاً بمخارِفَ معلّقَةٍ. وهناكَ شخصٌ على قَطيفَةٍ. فوقَ دَكّةٍ لَطيفَةٍ. فرابني عُنوانُ الصّحيفةِ. ومرْأى هذِه الطّريفَةِ. ودعاني التّطيّرُ بتِلْكَ المناحِسِ. إلى أن عمَدْتُ لذَلِكَ الجالِسِ. فعزَمْتُ عليْهِ بمُصَرِّفِ الأقدارِ. ليُعَرّفَني مَنْ رَبُّ هذهِ الدّارِ. فقال: ليسَ لها مالِكٌ معيَّنٌ. ولا صاحِبٌ مُبيَّنٌ. إنّما هيَ مَصطَبَةُ المُقيِّفينَ والمدَرْوِزينَ. ووَليجَةُ المُشَقشِقينَ والُجَلْوِزينَ. فقلتُ في نفسي: إنّا للهِ على ضِلّةِ المسْعى. وإمْحالِ المرْعى. وهمَمْتُ في الحالِ بالرُّجْعى. لكنّي استَهْجَنتُ العَوْدَ منْ فوْري. والقهْقَرَةَ دونَ غيري. فوَلجْتُ الدّارَ متجرِّعاً الغُصَصَ. كما يلِجُ العُصفورُ القفَصَ. فإذا فيه أرائِكُ منقوشَةٌ. وقد أقبَلَ المُمْلِكُ يَميسُ في بُردتِهِ. ويتَبَهْنَسُ بين حفَدَتِهِ. فحين جلَسَ كأنّهُ ابنُ ماء السّماء. نادى مُنادٍ منْ قِبَلِ الأحْماء: وحُرْمَةِ ساسانَ أُستاذِ الأستاذينَ. وقدوةِ الشّحاذينَ. لا عقَدَ هذا العقْدَ المُبجَّلَ. في هذا اليوم الأغرّ المحجَّلِ. إلا الذي جالَ وجابَ. وشبّ في الكُدْيَةِ وشابَ! فأعْجَبَ رهْطَ الصِّهْرِ ما أشاروا إليْهِ. وأذِنوا في إحْضارِ المنصوصِ عليْهِ. فبرزَ حينئذٍ شيخٌ قد أمالَ الملَوانِ قامتَهُ. ونوّرَ الفَتَيانِ ثَغامتَهُ. فتباشرَتِ الجماعةُ بإقْبالِهِ. وتبادَرَتْ إلى استِقبالِهِ. فلمّا جلَس على زُرْبِيّتِهِ. وسكنتِ الضّوْضاءُ لهيبَتِهِ. ازْدَلَفَ إلى مسْنَدِهِ. ومسحَ سَبلَتَهُ بيَدهِ. ثمّ قال: الحمدُ للهِ المُبتَدِئِ بالإفْضالِ. المُبتَدِعِ للنّوالِ. المقرَّبِ إليْهِ بالسّؤالِ. المؤمَّلِ لتحقيقِ الآمالِ. الذي شرعَ الزّكاةَ في الأموال. وزجَرَ عنْ نهْرِ السؤالِ وندَبَ إلى مواساةِ المُضطَرّ. وأمرَ بإطْعامِ القانِعِ والمعْتَرّ. ووصَفَ عِبادَهُ المقرَّبينَ. في كِتابِهِ المُبينِ. فقال وهوَ أصدَقُ القائلينَ: والذين في أموالِهِمْ حقٌّ معلومٌ. للسائِلِ والحرومِ. أحمَدُهُ على ما رزَقَ منْ طُعمَةٍ هنيّةٍ. وأعوذُ بهِ منِ استِماعِ دعوَةٍ بلا نِيّةٍ. وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهاً يَجزي المتصدّقينَ والمُتصَدّقاتِ. ويمحَقُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ. وأشهَدُ أنّ محمّداً عبدُهُ الرّحيمُ. ورسولُهُ الكريمُ. ابتَعَثَهُ ليَنسخَ الظُلمَةَ بالضّياء. وينتَصِفَ للفُقراء منَ الأغنياء. فرَفَقَ، صلى اللهُ عليهِ وسلّم، بالمِسْكينِ. وخفَضَ جَناحَهُ للمُستَكينِ. وفرضَ الحُقوقَ في أموالِ المُثْرينَ. وبيّنَ ما يجِبُ للمُقلّينَ على المُكثِرينَ. صلّى اللهُ عليْهِ صَلاةً تُحْظيهِ بالزُّلْفَةِ. وعلى أصفِيائِه أهلِ الصُّفّةِ. أما بعْدُ فإنّ اللهَ تعالى شرعَ النكاحَ لتَتَعفّفوا. وسنّ التّناسُلَ لكيْ تتضاعفوا. فقال سُبحانَهُ لتَعرِفوا: يا أيّها الناسُ إنّا خلَقْناكُمْ من ذكَرٍ وأنثى وجعلْناكُمْ شُعوباً وقَبائِلَ لتَعارَفوا. وهذا أبو الدّرّاجِ. ولاّجُ بنُ خرّاجٍ. ذو الوَجْهِ الوَقاحِ. والإفْكِ الصُّراحِ. والهَريرِ والصّياحِ. والإبْرام والإلْحاحِ. يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها. وشَريطَةَ بعلِه. قَنْبَسَ. بِنْتَ أبي العَنْبَسِ. لِما بلغَهُ منِ التِحافِها. بإلْحافِها. وإسْرافه. في إسْفافِها. وانْكِماشِها. على مَعاشِها. وانتِعاشِها. عندَ هِراشِها. وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً. وصِقاعاً وكزّازاً. فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ. وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ. وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ. أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ. وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ. ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ. فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ. وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ. تساقَطَ منَ النِّثارِ. ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ. وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ. ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ. ويَقْدُمُ أراذِلَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم. وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ. فعاجَ بهِمْ إلى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ. وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ. فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ. وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ. انسلَلْتُ منَ الصّفّ. وفررْتُ منَ الزّحْفِ. فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ. ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ. فقال: إلى أينَ يا بُرَمُ. هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ؟ فقلت: والذي خلقَها طِباقاً. وطبّقها إشْراقاً. لا ذُقتُ لَماقاً. ولا لُسْتُ رُقاقاً. أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ. ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ؟ فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً. وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً. حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ. استَنْصَتَ الجمْعَ. وقال لي: أرْعِني السّمْعَ:

مَسقَطُ الرّأسِ سَروجُ *** وبها كنـتُ أمـوجُ

 

بلدَةٌ يوجَـدُ فـيهـا *** كُلُّ شـيءٍ ويَروجُ

 

ورِدْها منْ سَلسَبـيلٍ *** وصحارِيها مُـروجُ

 

وبَنوها ومَـغـانـيـ *** هِمْ نُجـومٌ وبُـروجُ

 

حبّـذا نـفْـحَةُ ريّا *** ها ومَرآها البَهـيجُ

 

وأزاهـيرُ رُبـاهـا *** حينَ تنْجابُ الثّلـوجُ

 

منْ رآها قال مرْسى *** جنّةِ الدّنْيا سَـروجُ

 

ولمَنْ ينْزاحُ عنـهـا *** زفَـراتٌ ونـشـيجُ

 

مثلُ ما لاقَيتُ مُذْ زَحْـ *** زَحَني عنْها العُلوجُ

 

عَبرَةٌ تهْمي وشـجْـوٌ *** كلّـمـا قَـرّ يَهـيجُ

 

وهُـمـومٌ كُــلَّ يومٍ *** خطْبُها خطْبٌ مَـريجُ

 

ومساعٍ في التّـرَجّـي *** قاصِراتُ الخَطْوِ عوجُ

 

ليتَ يومي حُـمَّ لـمّـا *** حُمّ لي منْها الخُـروجُ

 

قال: فلمّا بيّن بلَدَهُ. ووعَيْتُ ما أنشدَهُ. أيقَنْتُ أنهُ علاّمَتُنا أبو زيدٍ. وإنْ كان الهرَمُ قد أوثَقَهُ بقَيدٍ. فبادَرْتُ إلى مُصافحَتِهِ. واغْتَنَمْتُ مؤاكَلَتَهُ منْ صحْفَتِهِ. وظَلْتُ مدّةَ مَقاميَ بمِصْرَ أعْشو إلى شُواظِهِ. وأحْشو صدَفَتَيّ منْ دُرَرِ ألْفاظِهِ. إلى أنْ نعَبَ بينَنا غُرابُ البَينِ. ففارَقْتُهُ مُفارقَةَ الجفْنِ للعَينِ.

=================================

مقامات الحريري/المقامة الطيبية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أجمَعْتُ حينَ قضَيْتُ مناسِكَ الحجّ. وأقَمْتُ وظائِفَ العجّ والثّجّ. أنْ أقصِدَ طَيْبَةَ. مع رُفقَةٍ منْ بَني شَيْبَةَ. لأزورَ قبرَ النّبيّ المُصطَفى. وأخرُجَ منْ قَبيلِ منْ حجّ وجَفا. فأُرْجِفَ بأنّ المسالِكَ شاغِرةٌ. وعرَبَ الحرَمَينِ مُتشاجِرةٌ. فحِرْتُ بين إشْفاقٍ يُشَبّطُني. وأشْواقٍ تُنشّطُني. إلى أنْ أُلْقيَ في رَوْعيَ الاستِسْلامُ. وتغلِيبُ زِيارَةِ قبرِهِ عليْهِ السّلامُ. فاعْتَمْتُ القُعْدَةَ. وأعددْتُ العُدّةَ. وسِرْتُ والرُفْقَةَ لا نلْوي على عُرْجةٍ. ولا نَني في تأويبٍ ولا دُلْجةٍ. حتى وافَيْنا بَني حرْبٍ. وقد آبوا منْ حرْبٍ. فأزْمَعْنا أن نُقَضّيَ ظِلَّ اليومِ. في حِلّةِ القومِ. وبينَما نحنُ نتخيّرُ المُناخَ. ونَرودُ الوِرْدَ النُّقاخَ. إذ رأيْناهُمْ يركُضونَ. كأنّهُمْ إلى نُصُبٍ يوفِضونَ. فرابَنا انثِيالُهمْ. وسألْنا: ما بالُهُمْ؟ فقيلَ قد حضرَ ناديَهُمْ فقيهُ العرَبِ. فإهْراعُهُم لهذا السّببِ. فقلتُ لرُفقَتي: ألن نشْهَدُ مَجْمَعَ الحيّ. لنتبيّنَ الرُشْدَ من الغَيّ؟ فقالوا: لقدْ أسْمَعتَ إذ دعَوْتَ. ونصَحْتَ وما ألَوْتَ. ثمّ نهضْنا نتّبِعُ الهادي. ونؤمّ النّاديَ. حتى إذا أظْلَلْنا عليْهِ. واستَشْرَفْنا الفَقيهَ المَنهودَ إلَيْهِ. ألفَيْتُهُ أبا زيدٍ ذا الشُّقَرِ والبُقَرِ. والفَواقِرِ والفِقَرِ. وقدِ اعْتَمّ القَفْداءَ. واشتمَلَ الصّمّاءَ. وقعدَ القُرْفُصاءَ. وأعْيانُ الحيِّ بهِ مُحتَفّونَ. وأخْلاطُهُمْ عليْهِ مُلتفّونَ. وهو يقول: سَلوني عنِ المُعضِلاتِ. واستَوضِحوا مني المُشكِلاتِ. فوَالذي فطَرَ السّماء. وعلّمَ آدمَ الأسْماء. إني لَفَقيهُ العرَبِ العَرْباء. وأعْلَمُ منْ تحتَ الجرْباء. فصمَدَ لهُ فتًى فَتيقُ اللّسانِ. جرِيّ الجَنانِ. وقال: إني حاضَرْتُ فُقَهاء الدّنيا. حتى انتَخَلْتُ منهُمْ مِئَةَ فُتْيا. فإنْ كنتَ ممّنْ يرغَبُ عنْ بَناتِ غيرٍ. ويرْغَبُ منا في مَيْرٍ. فاستَمِعْ وأجِبْ. لتُقابَلَ بما يجِبُ. فقال: اللهُ أكبرُ. سيَبينُ المَخْبَرُ. وينكَشِفُ المُضمَرُ. فاصْدَعْ بما تؤمَرُ. قال: ما تَقولُ في مَنْ توضّأ ثمّ لمسَ ظَهرَ نعلِهِ؟ قال: انتَقَضَ وُضوءُهُ بفِعلِهِ. قال: فإنْ توضّأ ثمّ أتْكأهُ البَردُ؟ قال: يُجَدّدُ الوُضوء منْ بعْدُ. قال: أيَمْسَحُ المتوَضّئ أُنثَيَيْهِ؟ قال: قد نُدِبَ إليْهِ. ولمْ يوجَبْ علَيْهِ. قال: أيجوزُ الوُضوء ممّا يقْذِفُهُ الثّعبانُ؟ قال: وهلْ أنْظَفُ منهُ للعُرْبانِ؟ قال: أيُستَباحُ ماء الضّريرِ؟ قال: نعَمْ ويُجتنَبُ ماء البَصيرِ. قال: أيَحُلّ التطوّفُ في الرّبيع؟ قال: يُكْرَه ذاك للحدَثِ الشّنيعِ. قال: أيجِبُ الغُسْلُ على منْ أمْنى؟ قال: لا ولوْ ثنّى. قال: فهلْ يجِبُ على الجُنُبِ غسْلُ فرْوَتِهِ؟ قال: أجَلْ وغسْلُ إبْرَتِهِ. قال: أيجبُ عليْهِ غسْلُ صَحيفَتِهِ؟ قال: نعَمْ كغسْلِ شفتِهِ. قال: فإنْ أخلّ بغسْلِ فأسِهِ؟ قال: هوَ كما لوْ ألْغَى غسْلَ رأسِهِ. قال: أيجوزُ الغُسلُ في الجِرابِ؟ قال: هوَ كالغُسلِ في الجِبابِ. قال: فما تقولُ في مَنْ تيمّمَ ثمّ رأى رَوْضاً؟ قال: بطَلَ تيمُّمُهُ فليَتَوضّا. قال: أيجوزُ أن يسْجُدُ الرّجلُ في العَذِرَةِ؟ قال: نعمْ ولْيُجانِبِ القَذِرَةَ. قال: فهلْ لهُ السّجودُ على الخِلافِ؟ قال: لا ولا على أحدِ الأطْرافِ. قال: فإنْ سجَدَ على شِمالِهِ؟ قال: لا بأسَ بفِعالِهِ. قال: فهلْ يجوزُ السّجودُ على الكُراعِ؟ قال: نعمْ دونَ الذّراعِ. قال: أيُصلّي على رأسِ الكلْبِ؟ قال: نعَمْ كسائِرِ الهضْبِ. قال: أيجوزُ للدّارِسِ حمْلُ المصاحِفِ؟ قال: لا ولا حمْلُها في الملاحِفِ. قال: ما تَقولُ في مَنْ صلّى وعانَتُهُ بارِزَةٌ؟ قال: صلاتُهُ جائِزَةٌ. قال: فإنْ صلّى وعليْهِ صومٌ؟ قال: يُعيدُ ولوْ صلّى مائَةَ يومٍ. قال: فإنْ حمَلَ جرْواً وصلّى؟ قال: هوَ كما لوْ حمَلَ باقِلّى. قال: أتصِحّ صَلاةُ حامِلِ القَرْوَةِ؟ قال: لا ولوْ صلّى فوقَ المَرْوَةِ. قال: فإنْ قطَرَ على ثوْبِ المُصَلّي نجْوٌ؟ قال: يمْضي في صَلاتِهِ ولا غَرْوَ. قال: أيَجوزُ أن يؤمّ الرّجالَ مقنّعٌ؟ قال: نعمْ ويؤمّهُمْ مُدَرَّعٌ. قال: فإنْ أمّهُمْ مَنْ في يدِهِ وقْفٌ؟ قال: يُعيدونَ ولوْ أنّهُمْ ألفٌ. قال: فإنْ أمّهُمْ منْ فخْذُهُ بادِيَةٌ؟ قال: صلاتُهُ وصلاتُهُم ماضيَةٌ. قال: فإنْ أمّهُمُ الثّورُ الأجَمُّ؟ قال: صلِّ وخَلاكَ ذمٌ. قال: أيدخُلُ القصْرُ في صَلاةِ الشاهدِ؟ قال: لا والغائِبِ الشّاهِدِ. قال: أيَجوزُ للمَعذورِ أن يُفطِرَ في شهرِ رمَضانَ؟ قال: ما رُخّصَ إلا للصّبْيانِ. قال: فهلْ للمُعَرِّسِ أن يأكُلَ فيه؟ قال: نعمْ بمِلئ فيهِ. قال: فإنْ أفطَرَ فيهِ العُراةُ؟ قال: لا تُنكِرُ عليْهِمِ الوُلاةُ. قال: فإنْ أكلَ الصّائِمُ بعدَما أصبَحَ؟ قال: هوَ أحوَطُ لهُ وأصلَحُ. قال: فإنْ عمَدَ لأنْ أكلَ ليْلاً؟ قال: ليُشمّرْ للقَضاء ذَيْلاً. قال: فإنْ أكلَ قبْلَ أن تتَوارَى البَيْضاءُ؟ قال: يلزَمُهُ واللهِ القَضاءُ. قال: فإنِ استَثارَ الصّائِمُ الكَيْدَ؟ قال: أفْطَرَ ومنْ أحَلّ الصّيدَ. قال: ألَهُ أن يُفْطِرَ بإلحاحِ الطّابِخِ؟ قال: نعَمْ لا بِطاهي المَطابِخِ. قال: فإنْ ضحِكَتِ المرأةُ في صومِها؟ قال: بطَلَ صومُ يومِها. قال: فإنْ ظهرَ الجُدَرِيُّ على ضَرّتِها؟ قال: تُفطِرُ إن آذَنَ بمضَرّتِها. قال: ما يجِبُ في مِئَةِ مِصباحٍ؟ قال: حِقّتانِ يا صاحِ. قال: فإنْ ملَكَ عشْرَ خَناجِرَ؟ قال: يُخرِجُ شاتَينِ ولا يُشاجِرُ. قال: فإنْ سمَحَ للسّاعي بحَميمَتِهِ؟ قال: يا بُشْرى لهُ يومَ قِيامتِهِ! قال: أيستَحِقّ حمَلَةُ الأوْزارِ منَ الزّكاةِ جُزّاً؟ قال: نعَمْ إذا كانوا غُزًى. قال: أيَجوزُ للحاجّ أن يعتَمِرَ؟ قال: لا ولا أنْ يختَمِرَ. قال: فهلْ لهُ أنْ يقتُلَ الشُجاعَ؟ قال: نعمْ كما يَقتُلُ السّباع. قال: فإنْ قتَلَ زَمّارَةً في الحرَمِ؟ قال: عليْهِ بدَنَةٌ منَ النّعَمِ. قال: فإنْ رمى ساقَ حُرٍّ فجَدّلَهُ؟ قال: يُخرِجُ شاةً بدَلَهُ. قال: فإنْ قتَلَ أمّ عوْفٍ بعْدَ الإحْرامِ؟ قال: يتصدّقُ بقَبضَةٍ منْ طَعامٍ. قال: أيجِبُ على الحاجّ استِصْحابُ القارِبِ؟ قال: نعمْ ليَسوقَهُمْ إلى المَشارِبِ. قال: ما تَقولُ في الحَرامِ بعْدَ السّبتِ؟ قال: قدْ حلّ في ذلِكَ الوقتِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ الكُمَيتِ؟ قال: حَرامٌ كبَيعِ الميْتِ. قال: أيَجوزُ بيعُ الخلّ بلَحْمِ الجمَلِ؟ قال: ولا بلَحْمِ الحمَلِ. قال: أيَحِلّ بيْعُ الهديّةِ؟ قال: لا ولا بيعُ السّبيّةِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ العَقيقَةِ؟ قال: محْظورٌ على الحقيقَةِ. قال: أيَجوزُ بيْعُ الدّاعي. على الرّاعي؟ قال: لا ولا على السّاعي. قال: أيُباعُ الصّقْرُ بالتّمرِ؟ قال: لا ومالِكِ الخَلْقِ والأمرِ. قال: أيَشتَري المُسلِمُ سلَبَ المُسلِماتِ؟ قال: نعَمْ ويورَثُ عنهُ إذا ماتَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يُبْتاعَ الشافِعُ. قال: ما لِجوازِهِ منْ دافِعٍ. قال: أيُباعُ الإبريقُ على بَني الأصْفَرِ؟ قال: يُكرَهُ كبَيْعِ المِغْفَرِ. قال: أيَجوزُ أن يَبيعَ الرّجُلُ صَيْفِيّهُ؟ قال: لا ولكِنْ ليَبِعْ صَفيّهُ. قال: فإنِ اشتَرى عبْداً فبانَ بأمِّهِ جِراحٌ؟ قال: ما في ردّهِ منْ جُناحٍ. قال: أتَثْبُتُ الشُفْعَةُ للشّريكِ في الصّحْراء؟ قال: لا ولا للشّريكِ في الصّفْراء. قال: أيَحِلّ أنْ يُحْمَى ماء البِئْرِ والخَلا؟ قال: إنْ كانَ في الفَلا فَلا. قال: ما تَقولُ في مَيتَةِ الكافِرِ؟ قال: حِلٌّ للمُقيمِ والمُسافِرِ. قال: أيجوزُ أن يُضَحّى بالحُولِ؟ قال: هوَ أجدَرُ بالقَبولِ. قال: فهلْ يُضحّى بالطّالِقِ؟ قال: نعمْ ويُقْرَى منْها الطّارِقُ. قال: فإنْ ضحّى قبْلَ ظُهورِ الغَزالَةِ؟ قال: شاةُ لحْمٍ بِلا مَحالَةٍ. قال: أيحِلّ التكَسّبُ بالطَّرْقِ؟ قال: هوَ كالقِمارِ بِلا فرْقٍ. قال: أيُسَلّمُ القائِمُ على القاعِدِ؟ قال: محْظورٌ فيما بينَ الأباعِدِ. قال: أيَنامُ العاقِلُ تحتَ الرّقيعِ؟ قال: أحْبِبْ بهِ في البَقيعِ. قال: أيُمنَعُ الذّمّيّ منْ قتْلِ العَجوزِ؟ قال: مُعارضَتُهُ في العَجوزِ لا تَجوزُ. قال: أيجوزُ أن ينتَقِلَ الرّجُلُ عنْ عِمارَةِ أبيهِ؟ قال: ما جُوّزَ لخامِلٍ ولا نَبيهٍ. قال: ما تَقولُ في التهَوّدِ؟ قال: هوَ مِفْتاحُ التّزهُّد. قال: ما تَقولُ في صبْرِ البَليّةِ؟ قال: أعظِمْ بهِ منع خَطيّةٍ. قال: أيَحِلّ ضرْبُ السّفيرِ؟ قال: نعمْ والحمْلُ على المُستَشيرِ. قال: أيُعزِّزُ الرّجُلُ أباهُ؟ قال: يفعَلُهُ البَرُّ ولا يأباهُ. قال: ما تَقولُ في

مَنْ أفقَر أخاهُ؟ قال: حبّذا ما توَخّاهُ! قال: فإنْ أعْرى ولدَهُ؟ قال: يا حُسْنَ ما اعتَمَدَهُ! قال: فإنْ أصْلى ممْلوكَهُ النّارَ؟ قال: لا إثْمَ عليْهِ ولا عارٌ. قال: أيَجوزُ للمرأةِ أنْ تصرِمَ بعْلَها؟ قال: ما حظَرَ أحدٌ فِعْلَها. قال: فهلْ تؤدَّبُ المرأةُ على الخجَلِ؟ قال: أجلْ. قال: ما تَقولُ في مَنْ نحَتَ أثلَةَ أخيهِ؟ قال: أثِمَ ولوْ أذِنَ لهُ فيهِ. قال: أيَحْجُرُ الحاكِمُ على صاحبِ الثّوْرِ؟ قال: نعمْ ليأمَنَ غائِلَةَ الجوْرِ. قال: فهلْ لهُ أن يضْرِبَ على يدِ اليَتيمِ؟ قال: نعمْ إلى أن يَستَقيمَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يتّخِذَ لهُ ربَضاً؟ قال: لا ولوْ كان لهُ رِضًى. قال: فمتى يبِيعُ بدَنَ السّفيهِ؟ قال: حينَ يرى لهُ الحظَّ فيهِ. قال: فهلْ يجوزُ أن يبْتاعَ لهُ حَشّاً؟ قال: نعمْ إذا لمْ يكُنْ مُغَشًّى. قال: أيجوزُ أن يكونَ الحاكِمُ ظالِماً؟ قال: نعمْ إذا كان عالِماً. قال: أيُستَقْضى منْ ليستْ لهُ بَصيرةٌ؟ قال: نعمْ إذا حسُنَتْ منهُ السّيرَةُ. قال: فإنْ تعرّى منَ العَقْلِ؟ قال: ذاكَ عُنوانُ الفضْلِ. قال: فإنْ كانَ لهُ زهْوُ جبّارٍ؟ قال: لا إنْكارَ عليهِ ولا إكْبار. قال: أيجوزُ أن يكونَ الشاهِدُ مُريباً؟ قال: نعمْ إذا كان أريباً. قال: فإنْ بانَ أنّهُ لاطَ؟ قال: هوَ كما لوْ خاطَ. قال: فإنْ عُثِرَ على أنّهُ غربَلَ؟ قال: تُرَدّ شهادَتُهُ ولا تُقبَلُ. قال: فإنْ وضَحَ أنهُ مائِنٌ؟ قال: هوَ لهُ وصْفٌ زائِنٌ. قال: ما يجِبُ على عابِدِ الحَقّ؟ قال: يُحلَّفُ بإلَهِ الخلْقِ. قال: ما تَقولُ في منْ فقَأ عينَ بُلبُلٍ عامِداً؟ قال: تُفقَأُ عينُه قوْلاً واحِداً. قال: فإنْ جرَحَ قَطاةَ امرأةٍ فماتَتْ؟ قال: النّفْسُ بالنّفْسِ إذا فاتَتْ. قال: فإنْ ألقَتِ الحامِلُ حَشيشاً منْ ضرْبِهِ؟ قال: ليُكفِّرْ بالإعْتاقِ عنْ ذنْبِهِ. قال: ما يجِبُ على المُختَفي في الشّرْعِ؟ قال: القطْعُ لإقامَةِ الرّدْعِ. قال: فما يُصنَعُ بمَنْ سرَقَ أساوِدَ الدّارِ؟ قال: يُقطَعُ إنْ ساوَينَ رُبعَ دينارٍ. قال: فإنْ سرَقَ ثَميناً من ذهَبٍ؟ قال: للا قَطْعَ كما لو غصَبَ. قال: فإنْ بانَ على المرأةِ السّرَقُ؟ قال: لا حرَجَ عليْها ولا فرَقَ. قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري؟ قال: لا والخالِقِ الباري. قال: ما تَقولُ في عَروسٍ باتَتْ بلَيلَةٍ حُرّةٍ. ثمّ رُدّتْ في حافِرَتِها بسُحْرَةٍ؟ قال: يجبُ لها نصفُ الصّداقِ. ولا تلْزَمُها عِدّةُ الطّلاقِ. فقال لهُ السّائِلُ. للهِ دَرُّكَ من بحْرٍ لا يُغَضْغِضُهُ الماتِحُ. وحِبْرٍ لا يبلُغُ مدْحَهُ المادِحُ! ثمّ أطرَقَ إطْراقَ الحَييّ. وأرَمّ إرْمامَ العَييّ. فقال لهُ أبو زيدٍ: إيهٍ يا فَتى! فإلى متى وإلى متى؟ فقالَ لهُ: لمْ يبْقَ في كِنانَتي مِرْماةٌ. ولا بعْدَ إشْراقِ صُبحِكَ مُماراةٌ. فبِاللهِ أيُّ ابنِ أرْضٍ أنتَ. فما أحسنَ ما أبَنْتَ. فأنشَدَ بلِسانٍ ذلِقٍ. وصوتٍ صهْصَلِقٍ :

أنا في العالَمِ مُثْـلَـهْ *** ولأهْلِ العِلمِ قِبـلَـهْ

 

غيرَ أنّـي كُـلَّ يومٍ *** بينَ تعْريسٍ ورِحلَـهْ

 

والغَريبُ الدّارِ لوْ حـ *** ـلّ بطوبى لمْ تطِبْ لَهْ

 

ثمّ قال: اللهُمّ كما جعلْتَنا ممّنْ هُدِيَ ويهْدي. فاجعَلهُمْ ممّنْ يهْتَدي ويُهْدي. فساقَ إليْهِ القومُ ذَوْداً معَ قَيْنَةٍ. وسألوهُ أن يَزورَهُمُ الفَينَةَ بعدَ الفَينةِ. فنهضَ يُمَنّيهِمِ العَوْدَ. ويُزَجّي الأمَةَ والذّوْدَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فاعْتَرَضْتُهُ وقلتُ لهُ عهْدي بكَ سَفيهاً. فمتى صِرْتَ فَقيهاً؟ فظلّ هُنيهَةً يَجولُ. ثم أنشدَ يقولُ:

لبِستُ لكُلّ زمـانٍ لَـبـوسـا *** ولابَستُ صَرْفَيهِ نُعمى وبوسَى

 

وعاشرْتُ كلَّ جَلـيسٍ بـمـا *** يُلائِمُهُ لأروقَ الـجَـلـيسـا

 

فعنـدَ الـرُّواةِ أُديرُ الـكـلامَ *** وبينَ السُقاةِ أديرُ الكـؤوسـا

 

وطوْراً بوعْظي أسيلُ الدّمـوعَ *** وطوْراً بلَهْوي أسُرّ النّفوسـا

وأقْري المَسامِعَ إمّا نطَـقْـتُ *** بَياناً يقودُ الحَرونَ الشَّمـوسـا

 

وإنْ شِئتُ أرعَفَ كفّي الـيَراعَ *** فساقَطَ دُرّاً يُحَلّي الطُّـروسـا

 

وكم مُشكِلاتٍ حَكينَ السُـهـى *** خَفاءً فصِرنَ بكَشفي شُموسـا

 

وكمْ مُلَحٍ لي خلَبْنَ الـعُـقـولَ *** وأسْأرْنَ في كُلّ قلْبٍ رَسيسـا

 

وعذْراءَ فُهْتُ بها فانْـثَـنـى *** عليها الثّناءُ طَليقاً حَـبـيسـا

 

على أنّني منْ زَمانٍ خُصِصْتُ *** بكيْدٍ ولا كيدَ فِرعَوْنَ موسـى

 

يسَعِّـرُ لـي كـلَّ يومٍ وغًـى *** أطامِنْ لَظاها وَطيساً وَطيسـا

 

ويَطْرُقُني بالخُطـوبِ الـتـي *** يُذِبنَ القُوَى ويُشِبنَ الرّؤوسـا

 

ويُدْني إليّ البَعيدَ الـبَـغـيضَ *** ويُبعِدُ عني القَريبَ الأنـيسـا

 

ولـوْلا خَـسـاسَةُ أخْـلاقِـهِ *** لَما كانَ حظّيَ منهُ خَسـيسـا

 

فقُلتُ له: خفّضِ الأحْزانَ. ولا تلُمِ الزّمانَ. واشْكرْ لمَنْ نقلَكَ عنْ مذْهَبِ إبْليسَ. إلى مذْهَبِ ابنِ إدْريسَ. فقال: دعِ الهِتارَ. ولا تهْتُكِ الأسْتارَ! وانهَضْ بنا لنَضْرِبَ. إلى مسْجِدِ يثْرِبَ. فعسَى أنْ نرْحَضَ بالمَزارِ. درَنَ الأوْزارِ. فقلْتُ: هيْهاتَ أن أسيرَ. أو أفْقَهَ التّفْسيرَ! فقال: تاللهِ لقدْ أوْجَبْتَ ذِمماً. وطلَبْتَ إذْ طلَبْتَ أمَماً. فهَاكَ ما يَشْفي النّفسَ. وينْفي اللَّبْسَ. قال: فلمّا أوضحَ لي المُعَمّى. وكشفَ عنّي الغُمّى. شدَدْنا الأكوارَ. وسِرْتُ وسارَ. ولمْ أزَلْ منْ مُسامرَتِهِ. مُدةَ مُسايرَتِهِ. في ما أنْساني طعْمَ المَشقّةِ. وودِدْتُ معهُ بُعْدَ الشُقّةِ. حتى إذا دخَلْنا مدينَةَ الرّسولِ. وفُزْنا منَ الزّيارةِ بالسُّولِ. أشْأمَ وأعْرَقْتُ. وغرّبَ وشرّقْتُ.

============

مقامات الحريري/المقامة العمانية

حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: لهِجْتُ مُذْ اخْضَرّ إزاري. وبَقَلَ عِذاري. بأنْ أجوبَ البَراري. وعلى ظُهورِ المَهاري. أُنْجِدُ طَوْراً. وأسْلُكُ تارَةً غوْراً. حتى فلَيْتُ المَعالِمَ والمجاهِلَ. وبلَوْتُ المنازِلَ والمَناهِلَ. وأدْمَيْتُ السّنابِكَ والمَناسِمَ. وأنْضَيْتُ السّوابِقَ والرّواسِمَ. فلمّا ملِلْتُ الإصْحارَ. وقد سنَحَ لي أرَبٌ بصُحارَ. مِلْتُ إلى اجْتيازِ التّيارِ. واختِيارِ الفُلْكِ السّيّارِ. فنقَلْتُ إليْهِ أساوِدي. واستَصْحَبْتُ زادي ومَزاوِدي. ثمّ ركِبْتُ فيهِ رُكوبَ حاذِرٍ ناذِرٍ. عاذِلٍ لنفْسِهِ عاذِرٍ. فلمّا شرَعْنا في القُلْعَةِ. ورفَعْنا الشُّرُعَ للسّرعَةِ. سمِعْنا منْ شاطئ المَرْسى. حينَ دَجا الليلُ وأغْسى. هاتِفاً يقول: يا أهْلَ ذا الفُلْكِ القَويمِ. المُزجّى في البحرِ العَظيمِ. بتقْديرِ العَزيزِ العليمِ. هل أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنجيكُمْ منْ عذابٍ أليمٍ؟ فقُلْنا لهُ: أقْبِسْنا نارَك أيها الدّليلُ. وأرشِدْنا كما يُرشِدُ الخَليلُ الخَليلَ. فقال: أتستَصْحِبونَ ابنَ سبيلٍ. زادُهُ في زَبيلٍ. وظِلّهُ غيرُ ثَقيلٍ. وما يَبغي سوى مَقيلٍ؟ فأجْمعْنا على الجُنوحِ إليْهِ. وأنْ لا نبْخَلَ بالماعونِ عليْهِ. فلمّا اسْتَوى على الفُلْكِ. قال: أعوذُ بمالِكِ المُلْكِ. منْ مسالِكِ الهُلْكِ! ثم قال: إنّا رُوِينا في الأخْبارِ. المنقولَةِ عنِ الأحْبارِ. أنّ اللهَ تَعالى ما أخذَ على الجُهّالِ أن يتعلّموا. حتى أخذَ على العُلَماء أنْ يعَلِّموا. وإنّ مَعي لَعوذَةً. عنِ الأنبِياء مأخوذَة. وعندي لكُمْ نَصيحةٌ. براهينُها صَحيحةٌ. وما وَسِعَني الكِتْمانُ. ولا مِنْ خيميَ الحِرْمانُ. فتَدَبّروا القوْلَ وتفهّموا. واعْمَلوا بما تُعلّمونَ وعلّموا. ثمّ صاحَ صيْحَةَ المُباهي. وقال: أتَدْرونَ ما هيَ؟ هيَ واللهِ حِرْزُ السّفْرِ. عندَ مسيرِهِمْ في البحْرِ. والجُنّةُ منَ الغَمّ. إذا جاشَ موْجُ اليَمّ. وبها استَعْصَمَ نوحٌ منَ الطّوفانِ. ونَجا ومَنْ معَهُ منَ الحَيوانِ. على ما صدَعَتْ بهِ آيُ القُرآنِ. ثمّ قرأ بعْضَ أساطيرَ تَلاها. وزخارِفَ جَلاها. وقال: ارْكَبوا فيها باسْمِ اللهِ مُجْراها ومُرْساها. ثمّ تنفّسَ تنفُّسَ المُغرَمينَ. أو عِبادِ اللهِ المُكرَمينَ. وقال: أمّا أنا فقدْ قُمتُ فيكُم مَقامَ المبلِّغينَ. ونصَحْتُ لكُمْ نُصْحَ المُبالِغينَ. وسلَكْتُ بكُمْ محَجّةَ الرّاشِدينَ. فاشْهَدِ اللهُمّ وأنتَ خيرُ الشاهِدينَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فأعْجَبَنا بيانُهُ البادي الطُّلاوَةِ. وعجّتْ لهُ أصواتُنا بالتّلاوَةِ. وآنَسَ قلبي منْ جرْسِهِ. معرِفَةَ عينِ شمْسِهِ. فقلْتُ لهُ: بالذي سخّرَ البحرَ اللُّجّيّ. ألسْتَ السَّروجيّ؟ فقال لي: بَلى. وهلْ يَخْفى ابنُ جَلا؟ فأحْمَدْتُ حينَئذٍ السّفَرَ. وسفَرْتُ عن نفْسي إذ سفَرَ. ولمْ نزَلْ نسيرُ والبحرُ رهْوٌ. والجوّ صحْوٌ. والعيشُ صَفوٌ. والزّمانُ لهْوٌ. وأنا أجِدُ للِقيانِهِ. وجْدَ المُثْري بعِقْيانِهِ. وأفرَحُ بمُناجاتِهِ. فرَحَ الغَريقِ بمَنْجاتِهِ. إلى أن عصَفَتِ الجَنوبُ. وعسَفَتِ الجُنوبُ. ونسَيَ السّفْرُ ما كانَ. وجاءهُمُ الموْجُ منْ كلّ مَكانٍ. فمِلْنا لهذا الحدَثِ الثّائِرِ. إلى إحْدى الجَزائِرِ. لنُريحَ ونستَريحَ. ريثَما تُؤاتي الرّيحُ. فتَمادَى اعْتِياصُ المَسيرِ. حتى نفِدَ الزّادُ غيرَ اليَسيرِ. فقال لي أبو زيدٍ: إنهُ لنْ يُحرَزَ جَنى العودِ بالقُعودِ. فهلْ لكَ في استِثارَةِ السّعودِ بالصّعودِ؟ فقلْتُ لهُ: إني لأتْبَعُ لكَ من ظِلّكَ. وأطْوَعُ منْ نعلِكَ. فنَهَدْنا إلى الجَزيرَةِ. على ضُعْفِ المَريرَةِ. لنركُضَ في امتِراء المِيرَةِ. وكِلانا لا يملِكُ فَتيلاً. ولا يهتَدي فيها سَبيلاً. فأقْبَلْنا نَجوسُ خِلالَها. ونتفيّأُ ظِلالَها. حتى أفْضَيْنا إلى قصرٍ مَشيدٍ. لهُ بابٌ منْ حَديدٍ. ودونَهُ زُمرةٌ من عَبيدٍ. فناسَمْناهُمْ لنتخِذَهُمْ سُلّماً إلى الارتِقاء. وأرشِيَةً للاستِقاء. فألْفَيْنا كلاً منهُمْ كَئيباً حَسيراً. حتى خِلْناهُ كسيراً أو أسيراً. فقُلْنا: أيتُها الغِلْمَةُ. ما هَذي الغُمّةُ؟ فلمْ يُجيبوا النّداء. ولا فاهوا ببَيْضاء ولا سَوْداء. فلمّا رأيْنا نارَهُمْ نارَ الحُباحِبِ. وخُبرَهُمْ كسَرابِ السّباسِبِ. قُلْنا: شاهَتِ الوجوهُ. وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ! فابتَدَرَ خادِمٌ قد علَتْهُ كَبْرَةٌ. وعرَتْهُ عبْرَةٌ. وقال: يا قوْمُ لا توسِعونا سَبّاً. ولا توجِعونا عتْباً. فإنّا لَفي حُزنٍ شامِلٍ. وشُغْلٍ عنِ الحديثِ شاغِلٍ. فقالَ لهُ أبو زيدٍ: نفِّسْ خِناقَ البَثّ. وانْفِثْ إنْ قدَرْتَ على النّفْثِ. فإنّكَ ستجِدُ مني عَرّافاً كافِياً. ووَصّافاً شافِياً. فقالَ لهُ: اعْلَمْ أنّ ربّ هذا القصْرِ هوَ قُطْبُ هذِهِ البُقعَةِ. وشاهُ هذِهِ الرُقعَةِ. إلا أنّهُ لمْ يخْلُ منْ كمَدٍ. لخُلوّهِ من ولَدٍ. ولمْ يزَلْ يستَكْرِمُ المَغارِسَ. ويتخيّرُ منَ المَفارِشِ النّفائِسِ. إلى أن بُشّرَ بحمْلِ عَقيلضةٍ. وآذَنَتْ رقْلَتُهُ بفَسيلَةٍ. فنُدِرَتْ له النّذورُ. وأُحصِيَتِ الأيامُ والشّهورُ. ولمّا حانَ النِّتاجُ. وصيغَ الطّوقُ والتّاجُ. عسُرَ مخاضُ الوضْعِ. حتى خِيفَ على الأصْلِ والفَرْعِ. فما فِينا مَنْ يعرِفُ قَراراً. ولا يطْعَمُ النّومَ إلا غِراراً. ثمّ أجْهَشَ بالبُكاء وأعْولَ. وردّدَ الاستِرْجاعَ وطوّلَ. فقال لهُ أبو زيدٍ: اسْكُنْ يا هَذا واستَبْشِرْ. وابْشِرْ بالفَرَجِ وبشّرْ! فعِندي عَزيمةُ الطّلْقِ. التي انتشَرَ سَمْعُها في الخَلْقِ. فتبادَرَتِ الغِلمَةُ إلى موْلاهُمْ. مُتباشِرينَ بانكِشافِ بلْواهُمْ. فلمْ يكُنْ إلا كَلا ولا حتى برزَ مَنْ هلْمَمَ بِنا إلَيْهِ. فلما دخلْنا عليْهِ. ومثَلْنا بينَ يدَيْهِ. قال لأبي زيدٍ: ليَهْنِكَ مَنالُكَ. إنْ صدَقَ مقالُكَ. ولم يفِلْ فالُكَ. فاستَحضرَ قلَماً مبْرِيّاً. وزبَداً بحرِيّاً. وزَعفَراناً قد دِيفَ. في ماء ورْدٍ نظيفٍ. فما إنْ رجَعَ النفَسُ. حتى أُحضِرَ ما التَمَسَ. فسجَدَ أبو زيدٍ وعفّرَ. وسبّحَ واستَغْفرَ. وأبْعَدَ الحاضِرينَ ونفّرَ. ثمّ أخذَ القلمَ واسْحَنْفَرَ. وكتبَ على الزّبَدِ بالمُزَعْفَرِ:

أيّهَذا الجَنينُ إنـي نـصـيحٌ *** لكَ والنّصحُ منْ شُروطِ الدّينِ

 

أنتَ مُستَعْصِمٌ بكِـنّ كَـنـينٍ *** وقَرارٍ منَ السّكونِ مَـكـينِ

 

ما تَرى فيهِ ما يَروعُكُ منْ إلـ *** فٍ مُداجٍ ولا عـدوٍّ مُـبـينِ

 

فمتى ما برَزْتَ منهُ تـحـوّلْـ *** تَ إلى منزِلِ الأذى والهونِ

 

وتَراءى لكَ الشّقاءُ الذي تـلْـ *** قَى فتَبْكي لهُ بدَمْعٍ هَـتـونِ

 

فاستَدِمْ عيشَكَ الرّغيدَ وحـاذِرْ *** أن تَبيعَ المَحقوقَ بالمظْنـونِ

 

واحتَرِسْ من مُخادِعٍ لك يرْقيـ *** كَ ليُلقيكَ في العذابِ المُهينِ

 

ولَعَمْري لقدْ نصَحْتُ ولكِـنْ *** كمْ نَصيحٍ مُشبَّهٍ بـظَـنـينِ

 

ثمّ إنهُ طمَسَ المكتوبَ على غَفلَةٍ. وتفَلَ عليْهِ مئَةَ تَفلَةٍ. وشدّ الزّبَدَ في خِرقَةِ حريرٍ. بعدَما ضمّخَها بعَبيرٍ. وأمرَ بتعْليقِها على فخْذِ الماخِضِ. وأنْ لا تعْلَقَ بها يدُ حائِضٍ. فلمْ يكُنْ إلا كذُواقِ شارِبٍ. أو فُواقِ حالِبٍ. حتى اندَلَقَ شخْصُ الولَدِ. لخصّيصَى الزَّبَدِ. بقُدرَةِ الواحِدِ الصّمَدِ. فامتلأ القصْرُ حُبوراً. واستُطيرَ عَميدُهُ وعَبيدُهُ سُروراً. وأحاطَتِ الجماعَةُ بأبي زيدٍ تُثْني عليْهِ. وتُقبّلُ يدَيْهِ. وتتبرّكُ بمِساسِ طِمْرَيْهِ. حتى خُيّلَ إليّ أنّهُ القَرَنيُّ أُوَيْسٌ. أوِ الأسَديُّ دُبَيسٌ. ثمّ انْثالَ عليْهِ منْ جَوائِزِ المُجازاةِ. ووصائِلِ الصّلاتِ. ما قيّضَ لهُ الغِنى. وبيّضَ وجْهَ المُنى. ولمْ يزَلْ ينْتابُهُ الدّخْلُ. مُذْ نُتِجَ السّخْلُ. إلى أن أُعطِيَ البحْرُ الأمانَ. وتسنّى الإتْمامُ إلى عُمانَ. فاكْتَفى أبو زيدٍ بالنِّحْلَةِ. وتأهّبَ للرّحلَةِ. فلمْ يسمَحِ الوالي بحرَكَتِهِ. بعْدَ تجرِبَةِ برَكَتِهِ. بلْ أوعَزَ بضَمّهِ إلى حُزانَتِهِ. وأنْ تُطلَقَ يدُهُ في خِزانَتِهِ. قالَ الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُهُ قدْ مالَ. إلى حيثُ يكتَسِبُ المالَ. أنْحَيْتُ علَيْهِ بالتّعْنيفِ. وهجّنْتُ لهُ مُفارَقَةَ المألَفِ والأليفِ. فقالَ إليْكَ عني. واسْمَعْ منّي:

لا تَصْبوَنّ إلى وطَـنْ *** فيهِ تُضامُ وتُمـتَـهَـنْ

 

وارْحَلْ عنِ الدّارِ التـي *** تُعْلي الوِهادَ على القُنَنْ

 

واهْرُبْ إلى كِـنٍّ يَقـي *** ولوَ انّهُ حِضْنا حضَـنْ

 

وارْبأ بنَفسِكَ أنْ تُـقـي *** م بَحيثُ يغْشاكَ الـدَّرَنْ

 

وجُبِ الـبِـلادَ فـأيُّهـا *** أرْضاكَ فاخْتَرْهُ وطَـنْ

 

ودَعِ التّذكُّرَ لـلـمَـعـا *** هِدِ والحَنينَ إلى السّكَـنْ

 

واعْلَمْ بأنّ الـحُـرّ فـي *** أوطانِهِ يَلْقَى الـغـبَـنْ

 

كالدُرّ في الأصْدافِ يُستزْ *** رى ويُبْخَسُ في الثّمَـنْ

 

قال: حسبُكَ ما استَمَعْتَ. وحبّذا أنتَ لوِ اتّبَعْتَ! فأوْضَحْتُ لهُ مَعاذيري. وقلتُ لهُ: كُنْ عَذيري. فعذَرَ واعتَذَرَ. وزوّدَ حتى لم يذَرْ. ثمّ شيّعَني تشْييعَ الأقارِبِ. إلى أنْ ركِبْتُ في القارِبِ. فودّعْتُهُ وأنا أشْكو الفِراقَ وأذُمّهُ. وأوَدُّ لوْ كانَ هلَكَ الجَنينُ وأمُّهُ.

====================

مقامات الحريري/المقامة الفارقية

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: يمّمْتُ ميّافَارِقينَ. معَ رُفقةٍ مُوافِقينَ. لا يُمارونَ في المُناجاةِ. ولا يدْرونَ ما طعْمُ المُداجاةِ. فكُنتُ بهِمْ كمَنْ لمْ يرِمْ عنْ وَجارِهِ. ولا ظعَنَ عنْ أليفِهِ وجارِهِ. فلمّا أنخْنا بها مطايا التّسْيارِ. وانتقلْنا عنِ الأكوارِ. إلى الأوْكارِ. تواصَيْنا بتَذْكارِ الصُحْبَةِ. وتناهَيْنا عنِ التّقاطُعِ في الغُربَةِ. واتّخذْنا نادِياً نعتَمِرُهُ طرَفَي النهارِ. ونتَهادَى فيهِ طُرَفَ الأخْبارِ. فبَينَما نحنُ بهِ في بعضِ الأيامِ. وقد انتظَمْنا في سِلكِ الالتِئامِ. وقفَ علَيْنا ذو مِقْوَلٍ جريّ. وجرْسٍ جهْوَريّ. فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ. قنّاصٍ للأسَدِ. والنّقَدِ. ثمّ قال:

عِنديَ يا قومُ حـديثٌ عَـجـيبْ *** فيهِ اعْتِبـارٌ لـلّـبـيبِ الأريبْ

 

رأيتُ في رَيْعانِ عُمْـري أخـا *** بأسٍ لهُ حدُّ الحُسامِ القَـضـيبْ

 

يُقْدِمُ في المَـعْـرَكِ إقْـدامَ مـنْ *** يوقِنُ بالفَـتْـكِ ولا يسْـتَـريبْ

 

فيُفْـرِجُ الـضّـيقَ بـكَـرّاتِـه *** حتى يُرى ما كان ضَنْكاً رَحيبْ

 

ما بارَزَ الأقْـرانَ إلا انْـثَـنـى *** عنْ موقِفِ الطّعْنِ برُمحٍ خضيبْ

 

ولا سَما يفتَحُ مُسـتَـصْـعِـبـاً *** مُستَغْلِقَ البابِ مَنيعـاً مَـهـيبْ

 

إلا ونـودِي حـينَ يسْـمـو لـهُ *** نصْرٌ منَ اللهِ وفـتْـحٌ قَـريبْ

 

هذا وكـمْ مـن لـيلَةٍ بـاتَـهـا *** يَميسُ في بُرْدِ الشّبابِ القَشـيبْ

 

يرتَشِفُ الـغِـيدَ ويرشُـفْـنَـهُ *** وهْوَ لدى الكُلّ المُفَدّى الحبـيبْ

 

فلـم يزَلْ يبـتَــزّهُ دهـــرُهُ *** ما فيهِ منْ بطْشٍ وعودٍ صَلـيبْ

 

حتى أصارَتْهُ اللّـيالـي لَـقًـى *** يَعافُهُ منْ كـان مـنـهُ قَـريبْ

 

قد أعجزَ الرّاقيَ تـحْـلـيلُ مـا *** بهِ منَ الدّاء وأعْيا الـطّـبـيبْ

 

وصارَمَ البـيضَ وصـارَمْـنَـهُ *** من بعدِ ما كانَ المُجابَ المُجيبْ

 

وآضَ كالمنْكوسِ في خَـلْـقِـهِ *** ومَنْ يَعِشْ يَلقَ دواهي المَشـيبْ

 

وها هُوَ اليومَ مُسَـجّـى فـمَـنْ *** يرْغَبُ في تكْفينِ ميْتٍ غَـريبْ

ثمّ إنهُ أعلنَ بالنّحيبِ. وبكى بُكاءَ المُحبّ على الحَبيبِ. ولما رقأتْ دمعَتُهُ. وانْفثأتْ لوْعَتُهُ. قال: يا نُجعَةَ الرّوادِ. وقُدوَةَ الأجْوادِ. واللهِ ما نطَقْتُ ببُهْتانٍ. ولا أخبَرْتُكُمْ إلا عنْ عِيانٍ. ولوْ كان في عَصايَ سيْرٌ. ولغَيمي مُطَيْرٌ. لاستأثرْتُ بما دعَوْتُكُمْ إليْهِ. ولما وقْفتُ موقِفَ الدّالّ علَيْهِ. ولكنْ كيفَ الطّيرانُ بلا جَناحٍ. وهلْ على منْ لا يجِدُ منْ جُناحٍ؟ قال الرّاوي: فطفِقَ القومُ يأتَمِرونَ. في ما يأمُرونَ. ويتخافَتونَ. في ما يأتُونَ. فتوهّمَ أنهُم يتمالَؤون على صَرْفِهِ بحِرْمانٍ. أو مُطالَبَتِه ببُرْهانٍ. ففرطَ منهُ أنْ قال: يا يلامِعَ القاعِ. ويَرامِعَ البِقاعِ. ما هذا الارْتِياء. الذي يأباهُ الحَياء؟ حتى كأنّكُمْ كُلّفْتُمْ مشَقّةً. لا شُقّةً. أوِ استُوهِبتُمْ بلدَةً. لا بُرْدَةً. أو هُزِزْتُمْ لكِسوَةِ البيْتِ. لا لتَكْفينِ الميْتِ؟ أُفٍّ لمَنْ لا تَنْدى صَفاتُهُ. ولا ترْشَحُ حَصاتُهُ! فلمّا بصُرَتِ الجَماعَةُ بذِلاقَتِهِ. ومرارَةِ مَذاقَتِهِ. رفأهُ كُلٌ منْهُمْ بنَيْلِهِ. واحتَمَلَ طلَّهُ خوْفَ سيْلِهِ. قال الحارثُ بنُ همّام: وكان هذا السّائلُ واقِفاً خلْفي. ومُحتَجِباً بظهْري عنْ طرْفي. فلمّا أرْضاهُ القومُ بسَيْبِهِمْ. وحقّ عليّ التّأسّي بهِمْ. خلَجْتُ خاتَمي من خِنصِري. ولفتّ إليهِ بصَري. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيُّ بِلا فِريَةٍ. ولا مِرْيَةٍ. فأيقَنْتُ أنّها أُكذوبَةٌ تكذَّبَها. وأُحبولَةٌ نصبَها. إلا أنّني طويْتُهُ على غَرّهِ. وصُنْتُ شَغاهُ عنْ فرّهِ. فحَصَبْتُهُ بالخاتَمِ. وقلتُ: أرصِدْهُ لنفَقَةِ المأتَمِ. فقال: واهاً لكَ. فما أضْرَمَ شُعْلَتَك. وأكْرَمَ فَعْلتَكَ! ثمّ انطلَقَ يسْعى قُدْماً. ويهرْوِلُ هرْولَتهُ قِدْماً. فنزَعْتُ إلى عِرْفانِ ميّتِه. وامتِحانِ دعْوى حميّتِهِ. فقرَعْتُ ظُنْبوبي. وألْهبْتُ أُلْهوبي. حتى أدركْتُه على غَلوَةٍ. واجتَلَيْتُهُ في خَلوَةٍ. فأخَذْتُ بجُمْعِ أرْدانِه. وعُقْتُهُ عن سُنَنِ ميْدانِهِ. وقلتُ لهُ: واللهِ ما لك منّي ملْجأٌ ولا منْجًى. أو تُريني ميّتَكَ المُسَجّى! فكشفَ عنْ سراويلِه. وأشار إلى غُرْمولِهِ. فقلتُ لهُ: قاتلَكَ اللهُ فما ألْعبَكَ بالنُهى. وأحيَلَكَ على اللُّهَى! ثمّ عُدْتُ إلى أصحابي عوْدَ الرّائِدِ الذي لا يكذِبُ أهلَهُ. ولا يُبَرقِشُ قولَهُ. فأخبَرْتُهُمْ بالذي رأيتُ. وما ورّيتُ ولا رأيتُ. فقَهْقهوا منْ كَيْتَ وكَيْتَ. ولعَنوا ذلِكَ المَيْتَ.

===============

مقامات الحريري/المقامة الفراتية

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أوَيْتُ في بعضِ الفتَراتِ. إلى سقْيِ الفُراتِ. فلَقيتُ بها كُتّاباً أبْرَعَ منْ بَني الفُراتِ. وأعْذَبَ أخْلاقاً منَ الماء الفُراتِ. فأطَفْتُ بهِمْ لتهَذُّبِهِمْ. ولا لذَهَبِهِمْ. وكاثَرْتُهُمْ لأدَبِهِم. لا لمآدِبِهمْ. فجالَسْتُ منهُمْ أضْرابَ قَعْقاعِ بنِ شَوْرٍ. ووصلتْ بهِمْ إلى الكَوْرِ. بعدَ الحَوْرِ. حتى إنّهُمْ أشرَكوني في المرْتَعِ والمرْبَعِ. وأحَلّوني محَلّ الأنْمُلَةِ منَ الإصْبَعِ. واتّخذوني ابنَ أُنسِهِمْ عندَ الوِلايَةِ والعَزْلِ. وخازِنَ سِرّهِمْ في الجِدّ والهزْلِ. فاتّفَقَ أنْ نُدِبوا في بعْضِ الأوْقاتِ. لاستِقْراء مَزارِعِ الرُزْداقاتِ. فاخْتاروا منَ الجَواري المُنْشآتِ. جاريةً حالِكَةَ الشِّياتِ. تَحْسَبُها جامِدةً وهي تمُرّ مرّ السّحابِ. وتنْسابُ في الحَبابِ كالحُبابِ. ثمّ دعَوْني إلى المُرافَقَةِ. فلبّيتُ بلِسانِ المُوافَقَةِ. فلمّا تورّكْنا على المَطيّةِ الدّهْماء. وتبَطّنّا الوَلِيّةَ الماشيةَ على الماء. ألفَيْنا بها شيخاً علَيْهِ سحْقُ سِرْبالٍ. وسِبٌّ بالٍ. فعافَتِ الجَماعَةُ مَحْضَرَهُ. وعنّفَتْ منْ أحضَرَهُ. وهمّتْ بإبْرازِهِ منَ السّفينةِ. لولا ما ثابَ إلَيْها منَ السّكينَةِ. فلمّا لمحَ منّا استِثْقالَ ظِلّهِ. واستِبْرادَ طَلّهِ. تعرّضَ للمُنافثَةِ. فصُمّتَ. وحمْدَلَ بعدَ أنْ عطَسَ فما شُمّتَ. فأخْرَدَ ينظُرُ فيما آلَتْ حالُهُ إليْهِ. وينتظِرُ نُصرَةَ المَبْغيّ علَيْهِ. وجُلْنا نحْنُ في شُجونٍ. منْ جِدٍّ ومُجونٍ. إلى أنِ اعتَرَضَ ذِكْرُ الكِتابَتَينِ وفضْلِهِما. وتَبْيانِ أفضَلِهِما. فقالَ قائِلٌ: إنّ كتَبَةَ الإنْشاء أنْبَلُ الكُتّابِ. ومالَ مائِلٌ إلى تفْصيلِ الحُسّابِ. واحتدّ الحِجاجُ. وامتدّ اللَّجاجُ. حتى إذا لمْ يبْقَ للجِدالِ مَطرَحٌ. ولا للمِراء مسرَحٌ. قال الشيخُ: لقدْ أكثرْتُمْ يا قوْمُ اللّغَطَ. وأثَرْتُمُ الصّوابَ والغلَطَ. وإنّ جَليّةَ الحُكمِ عِندي. فارتَضوا بنقْدي. ولا تستَفْتوا أحداً بعْدِي. اعْلَموا أنّ صِناعَةَ الإنْشاء أرْفَعُ. وصِناعَةَ الحِسابِ أنفَعُ. وقلَمَ المُكاتَبَةِ خاطِبٌ. وقلَمَ المُحاسَبَةِ حاطِبٌ. وأساطيرَ البَلاغَةِ تُنسَخُ لتُدْرَسَ. ودساتيرَ الحُسْباناتِ تُنسَخُ وتُدرَسُ. والمُنشِئُ جُهَينَةُ الأخْبارِ. وحقيبةُ الأسْرارِ. ونَجيُّ العُظماء. وكَبيرُ النُّدَماء. وقلَمُهُ لِسانُ الدولَةِ. وفارِسُ الجولَةِ. ولُقْمانُ الحِكمَةِ. وتَرْجُمانُ الهِمّةِ. وهوَ البَشيرُ والنّذيرُ. والشّفيعُ والسّفيرُ. بهِ تُستَخْلَصُ الصّياصي. وتُملَكُ النّواصي. ويُقتادُ العاصي. ويُستَدْنى القاصي. وصاحِبُهُ بريءٌ من التّبِعاتِ. آمِنٌ كيْدَ السُعاةِ. مقرَّظٌ بينَ الجماعاتِ. غيرُ معرَّضٍ لنَظْمِ الجِماعاتِ. فلمّا انتهى في الفصْلِ. إلى هذا الفصْلِ. لحَظَ منْ لمَحاتِ القوْمِ أنهُ ازْدَرَعَ حُبّاً وبُغْضاً. وأرْضى بعْضاً وأحفَظَ بعْضاً. فعقّبَ كلامَهُ بأنْ قال: إلا أنّ صِناعَة الحِسابِ موضوعةٌ على التّحقيقِ. وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ. وقلَمَ الحاسِبِ ضابِطٌ. وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ. وبينَ إتاوَةِ توظيفِ المُعامَلاتِ. وتِلاوَةِ طَواميرِ السّجِلاّتِ. بوْنٌ لا يُدرِكُهُ قِياسٌ. ولا يعْتَورُهُ التِباسٌ. إذِ الإتاوَةُ تمْلأ الأكْياسَ. والتّلاوَةُ تفَرِّغُ الرّاسَ. وخَراجُ الأوارِجِ يُغْني النّاظِرَ. واستِخْراجُ المَدارِجِ يُعَنّي الناظِرَ. ثمّ إنّ الحسَبَةَ حفَظَةُ الأموالِ. وحمَلَةُ الأثْقالِ. والنّقَلَةُ الأثْباتُ. والسّفَرَةُ الثّقاتُ. وأعْلامُ الإنْصافِ. والانتِصافِ. والشّهودُ المَقانِعُ في الاختِلافِ. ومنهُمُ المُستَوْفي الذي هوَ يدُ السّلطانِ. وقُطْبُ الدّيوانِ. وقِسْطاسُ الأعملِ. والُهَيمِنُ على العُمّالِ. وإليْهِ المآبُ في السّلْمِ والهرْجِ. وعلَيْهِ المَدارُ في الدّخْلِ والخرَجِ. وبهِ مَناطُ الضّرّ والنّفْعِ. وفي يدِهِ رِباطُ الإعْطاء والمنْعِ. ولوْلا قلَمُ الحُسّابِ. لأوْدَتْ ثمرَةُ الاكتِسابِ. ولاتّصَلَ التّغابُنُ إلى يومِ الحِسابِ. ولَكانَ نِظامُ المُعامَلاتِ مَحْلولاً. وجُرْحُ الظُلاماتِ مطْلولاً. وجيدُ التّناصُفِ مغْلولاً. وسيْفُ التّظالُمِ مسْلولاً. على أنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ. ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ. والمُحاسِبُ مناقِشٌ. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ. ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى. إلى أنْ يُلْقى ويُرْقى. وإعْناتٌ فيما يُنْشا. حتى يُغْشى. ويُرْشى. إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ. بما راقَ وراعَ. استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ. وأبَى الانتِسابَ. ولوْ وجَدَ مُنْساباً لانْسابَ. فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ. حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ. فقُلْتُ: والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ. والفُلْكَ السّيّارَ. إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ. وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ. فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي. وقال: أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ. ولا يُبارَى عبقَريُّهُ. فخطَبوا منْهُ الوُدّ. وبذَلوا لهُ الوُجْدَ. فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ. ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ. وقال: أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي. لأجلِ سَحْقي. وكسفْتُمْ بالي. لإخْلاقِ سِرْبالي. فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ. ولا لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ. ثمّ أنشدَ:

اسمَعْ أُخَيّ وصيّةً منْ نـاصِـحٍ *** ما شابَ محْضَ النُصْح منه بغِشّهِ

 

لا تَعجَلَنْ بقـضـيّةٍ مـبْـتـوتَةٍ *** في مدْحِ منْ لمْ تبلُهُ أو خـدشِـهِ

 

وقِفِ القضيّةَ فيهِ حتى تجْتَـلـي *** وصْفَيْهِ في حالَيْ رِضاهُ وبطْشِهِ

 

ويَبينَ خُلّبُ برْقِهِ مـنْ صِـدْقِـهِ *** للشّائِمينَ ووبْلُـهُ مـنْ طَـشّـهِ

 

فهُناكَ إنْ ترَ مـا يَشـينُ فـوارِهِ *** كرَماً وإنْ ترَ ما يَزينُ فأفْـشِـهِ

 

ومنِ استَحَقّ الإرْتِقـاءَ فـرقّـهِ *** ومنِ استحطّ فحُطّهُ في حـشّـهِ

 

واعلَمْ بأنّ التّبرَ في عِرْقِ الثّـرى *** خافٍ إلى أنْ يُستَثارَ بنَـبْـشِـهِ

 

وفَضيلةُ الدّينارِ يظهَـرُ سِـرُّهـا *** منْ حَكّهِ لا مِنْ مَلاحَةِ نقْـشِـهِ

 

ومنَ الغَباوةِ أن تعظّـمَ جـاهِـلاً *** لصِقالِ ملبَسِهِ ورونَقِ رَقْـشِـهِ

 

أو أن تُهينَ مهذّباً في نـفـسِـهِ *** لدُروسِ بِزّتِـهِ ورثّةِ فُـرْشِـهِ

 

ولَكَمْ أخي طِمْرَينِ هِيبَ لفضْلـه *** ومفَوّفِ البُرْدَينِ عيبَ لفُحْـشِـهِ

 

وإذا الفتى لمْ يغْشَ عاراً لم تكـنْ *** أسْمالُهُ إلاّ مَـراقـي عـرْشِـهِ

 

ما إنْ يضُرُّ العَضْبُ كوْنُ قِرابِـهِ *** خلَقاً ولا البازِي حَقارَةُ عُـشّـهِ

 

ثمّ ما عتّمَ أنِ استوْقَفَ الملاّحَ. وصعِدَ منَ السّفينةِ وساحَ. فندِمَ كلٌ منّا على ما فرّطَ في ذاتِه. وأغْضى جفْنَه على قَذاتِهِ. وتعاهَدْنا على أنْ لا نحتَقِرَ شخْصاً لرَثاثَةِ بُرْدِهِ. وأنْ لا نزْدَريَ سيْفاً مخْبوءاً في غِمدِهِ.

=============================

مقامات الحريري/المقامة الفرضية

أخبرَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: أرِقْتُ ذاتَ ليلَةٍ حالِكَةِ الجلْبابِ. هامِيَةِ الرَّبابِ. ولا أرَقَ صَبٍّ طُرِدَ عنِ الباب. ومُنيَ بصَدّ الأحْبابِ. فلمْ تزَلِ الأفكارُ يهِجْنَ همّي. ويُجِلنَ في الوَساوِسِ وهْمي. حتى تمنّيْتُ. لمَضَضِ ما عانَيْتُ. أنْ أُرْزَقَ سَميراً منَ الفُضَلاء. ليُقصّرَ طولَ ليلَتي اللّيْلاء. فما انقَضَتْ مُنيَتي. ولا أُغمِضَتْ مُقلَتي. حتى قرَعَ البابَ قارِعٌ. لهُ صوتٌ خاشِعٌ. فقلتُ في نفسي: لعلّ غَرْسَ التّمني قد أثمَرَ. وليْلَ الحظّ قد أقْمَرَ. فنهَضْتُ إليْهِ عَجْلانَ. وقلتُ: مَنِ الطّارِقُ الآن؟ فقال: غَريبٌ أجَنّهُ الليلُ. وغشِيَهُ السّيْلُ. ويبْتَغي الإيواءَ لا غَير. وإذا أسْحَرَ قدّمَ السّيرَ. قال: فلمّا دَلّ شُعاعُهُ على شمْسِهِ. ونَمّ عُنوانُهُ بسِرّ طِرْسِهِ. علِمْتُ أنّ مُسامرَتَهُ غُنْمٌ. ومُساهَرَتَهُ نُعْمٌ. ففتَحْتُ البابَ بابتِسامٍ. وقلتُ: ادخُلوها بسَلام. فدخَلَ شخصٌ قد حنى الدّهرُ صَعْدَتَهُ. وبلّلَ القَطْرُ بُردَتَهُ. فحَيّا بلِسانٍ عضْبٍ. وبَيانٍ عذْبٍ. ثمّ شكرَ على تلبِيَةِ صوتِه. واعتَذَرَ منَ الطُّروقِ في غيرِ وقتِه. فدانَيْتُهُ بالمِصْباحِ المتّقِدِ. وتأمّلْتُهُ تأمّلَ المُنتَقِدِ. فألفَيْتُهُ شيخَنا أبا زيْدٍ بِلا رَيبٍ. ولا رَجْمِ غيْبٍ. فأحْلَلْتُه محلّ مَنْ أظفَرَني بقُصْوى الطّلَبِ. ونقَلَني منْ وقْذِ الُكرَبِ. إلى رَوْحِ الطّرَبِ. ثمّ أخذَ يشْكو الأينَ. وأخذْتُ في كيفَ وأينَ؟ فقال: أبلِعْني ريقي. فقدْ أتعَبَني طَريقي. فظَنَنْتُهُ مُستَبْطِناً للسّغَبِ. مُتكاسِلاً لهَذا السّبَبِ. فأحضَرْتُهُ ما يُحْضَرُ للضّيفِ المُفاجي. في اللّيلِ الدّاجي. فانقَبَضَ انقِباضَ المُحتَشِمِ. وأعْرَضَ إعْراضَ البَشِمِ. فسُؤتُ ظَنّاً بامتِناعِهِ. وأحْفَظَني حؤولُ طِباعِهِ. حتى كِدْتُ أُغْلِظُ لهُ في الكلامِ. وألسَعُهُ بحُمَةِ المَلامِ. فتبيّنَ منْ لمَحاتِ ناظِري. ما خامَرَ خاطِري. فقال: يا ضَعيفَ الثّقةِ. بأهلِ المِقَةِ. عدِّ عمّا أخطَرْتَهُ بالَكَ. واسْتَمِعْ إليّ لا أبا لكَ! فقلْتُ: هاتِ. يا أخا التُرّهاتِ! فقال: اعْلَمْ أني بِتُّ البارِحَةَ حَليفَ إفْلاسٍ. ونَجيَّ وسْواسٍ. فلمّا قضى الليلُ نحْبَهُ. وغوّرَ الصُبحُ شُهْبَهُ. غدَوْتُ وقْتَ الإشْراقِ. إلى بعضِ الأسْواقِ. متصدّياً لصَيْدٍ يسْنَحُ. أو حُرٍّ يسمَحُ. فلحَظْتُ بها تمْراً قد حَسُنَ تصْفيفُهُ. وأحسَنَ إليْهِ مَصيفُهُ. فجمعَ على التّحقيقِ. صَفاءَ الرّحيقِ. وقُنوءَ الَعقيقِ. وقُبالتَهُ لِبَأٌ قد برزَ كالإبْريزِ الأصفَرِ. وانجلى في اللونِ المزَعْفَرِ. فهوَ يُثْني على طاهِيهِ. بلِسانِ تناهِيهِ. ويصوِّبُ رأيَ مُشتَريهِ. ولوْ نقَدَ حبّةَ القلْبِ فيهِ. فأسرَتْني الشّهوةُ بأشْطانِها. وأسلَمَتْني العَيْمَةُ إلى سُلْطانِها. فبَقيتُ أحْيَرَ من ضَبّ. وأذْهَلَ من صَبّ. لا وُجْدَ يوصِلُني إلى نيْلِ المُرادِ. ولذّةِ الازْدِرادِ. ولا قدَمَ تُطاوعُني على الذّهابِ. مع حُرقَةِ الالتِهابِ. لكِنْ حَداني القرَمُ وسوْرَتُهُ. والسّغَبُ وفَورَتُهُ. على أنْ أنتَجِعَ كُلَّ أرضٍ. وأقتَنِعَ منَ الوِرْدِ ببَرْضٍ. فلمْ أزَلْ سَحابةَ ذلِكَ النّهارِ. أُدْلي دَلْوي إلى الأنْهارِ. وهيَ لا ترْجِعُ ببِلّةٍ. ولا تجْلُبُ نقْعَ غُلّةٍ. إلى أنْ صغَتِ الشمسُ للغُروبِ. وضعُفَتِ النّفسُ منَ اللّغوبِ. فرُحْتُ بكبِدٍ حرّى. وانثَنَيْتُ أقدّمُ رِجْلاً وأؤخّرُ أخرى. وبينَما أنا أسعى وأقعُدُ. وأهُبُّ وأرْكُدُ. إذ قابَلَني شيخٌ يتأوّهُ أهّةَ الثّكْلانِ. وعيناهُ تهْمُلانِ. فما شغَلني ما أنا فيهِ منْ داء الذّيبِ. والخَوى المُذيبِ. عنْ تَعاطي مُداخَلَتِهِ. والطّمعِ في مُخاتَلَتِهِ. فقلتُ لهُ: يا هَذا إنّ لبُكائِكَ سِرّاً. ووَراء تحرُّقِكَ لشَرّاً. فأطْلِعْني على بُرَحائِكَ. واتّخِذْني منْ نُصَحائِكَ. فإنّكَ ستجِدُ مني طَبّاً آسِياً. أو عوْناً مؤاسياً. فقال: واللهِ ما تأوّهي منْ عيشٍ فاتَ. ولا منْ دهْرٍ افْتاتَ بلْ لانقِراضِ العِلمِ ودُروسهِ. وأفولِ أقمارِهِ وشُموسِهِ. فقلت: وأيّ حادثَةٍ نجمَتْ. وقضيّةٍ استعْجَمتْ. حتى هاجَتْ لكَ الأسَفَ. على فقْدِ منْ سلَفَ؟ فأبْرَزَ رُقعَةً منْ كُمّهِ. وأقسَمَ بأبيهِ وأمّه. لقدْ أنزَلَها بأعْلامِ المدارِسِ. فما امتازوا عنِ الأعْلامِ الدّوارِسِ. واستنْطَقَ لَها أحْبارَ المَحابِرِ. فخرِسوا ولا خرَسَ سُكّانِ المقابِرِ. فقلتُ: أرِنيها. فلعلّي أغْني فيها. فقال: ما أبعَدْتَ في المَرامِ. فرُبّ رمْيَةٍ منْ غيرِ رامٍ. ثمّ ناوَلنيها. فإذا المكْتوبُ فيها:

أيّها العالِمُ الفَقيهُ الـذي فـا *** قَ ذُكاءً فما لهُ منْ شَبـيهِ

 

أفِتْنا في قضيّةٍ حادَ عنْـهـا *** كلُّ قاضٍ وحارَ كلُّ فَقـيهِ

 

رجُلٌ ماتَ عنْ أخٍ مسلِمٍ حُ *** رٍ تقيٍّ مـنْ أمّـهِ وأبـيهِ

 

ولهُ زوْجَةٌ لها أيّها الحِـبْ *** رُ أخٌ خالِصٌ بلا تَـمـويهِ

 

فحوَتْ فرْضَها وحازَ أخوها *** ما تبَقّى بالإرثِ دونَ أخيهِ

 

فاشْفِنا بالجَوابِ عمّا سألْنـا *** فهْوَ نصٌّ لا خُلْفَ يوجَدُ فيهِ

 

فلمّا قرأتُ شِعْرَها. ولمحْتُ سرّها. قلتُ له: على الخَبيرِ بها سقَطْتَ. وعندَ ابنِ بجْدَتِها حططْتَ. إلا أني مُضطرِمُ الأحْشاء. مُضطَرٌّ إلى العَشاء. فأكْرِمْ مثْوايَ. ثم استَمِعْ فتْوايَ. فقال: لقد أنصَفْتَ في الاشتِراطِ. وتجافَيْتَ عنِ الاشتِطاطِ. فصِرْ معي. إلى مربَعي. لتَظْفَرَ بما تبْتَغي. وتنقَلِبَ كما ينْبَغي. قال: فصاحَبتُهُ إلى ذَراهُ. كما حكَمَ اللهُ. فأدخَلَني بيتاً أحرجَ من التّابوتِ. وأوْهَنَ منْ بيتِ العنكَبوتِ. إلا أنّهُ جبَرَ ضيقَ ربْعِهِ. بتوْسِعَةِ ذرْعِهِ. فحكّمَني في القِرى. ومطايِبِ ما يُشتَرى. فقلتُ: أريدُ أزْهى راكبٍ على أشْهى مرْكوبٍ. وأنْفَعَ صاحِبٍ مع أضرّ مصْحوبٍ. فأفْكَرَ ساعةً طويلةً. ثمّ قال: لعلّك تعْني بنْتَ نُخَيلةٍ. معَ لِباء سُخَيلةٍ. فقلتُ: إياهُما عنَيْتُ. ولأجْلِهِما تعنّيْتُ. فنهَضَ نشيطاً. ثمّ ربَضَ مُستَشيطاً. وقال: اعْلَمْ أصلحَكَ اللهُ أنّ الصّدْقَ نَباهةٌ. والكذِبَ عاهَةٌ. فلا يحمِلنّكَ الجوعُ الذي هوَ شِعارُ الأنبِياء. وحِليَةُ الأولِياء. على أنْ تلْحَقَ بمَنْ مانَ. وتتخلّقَ بالخُلُقِ الذي يُجانِبُ الإيمانَ. فقدْ تجوعُ الحُرّةُ ولا تأكُلُ بثَدْيَيها. وتأبى الدنيّةَ ولوِ اضطُرّتْ إلَيْها. ثمّ إنّي لستُ لك بزَبونٍ. ولا أُغضي على صَفقَةِ مغْبونٍ. وها أنا قد أنذَرْتُكَ قبلَ أنْ ينهَتِكَ السِّتْرُ. وينعَقِدَ فيما بينَنا الوِتْرُ. فلا تُلْغِ تدبُّرَ الإنْذارِ. وحَذارِ منَ المُكاذبَةِ حَذارِ. فقلْتُ لهُ: والذي حرّمَ أكْلَ الرِّبا. وأحَلّ أكْلَ اللِّبا. ما فُهْتُ بزورٍ. ولا دلّيْتُكَ بغُرورٍ. وستخْبُرُ حَقيقَةَ الأمْرِ. وتحْمَدُ بذْلَ اللّبإ والتّمْرِ. فهشّ هَشاشَةَ المصْدوقِ. وانطلَقَ مُغِذّاً إلى السّوقِ. فما كان بأسرَعَ منْ أنْ أقبَلَ بهِما يدْلَحُ. ووجْهُهُ منَ التّعبِ يكلَحُ. فوضَعَهُما لديّ. وضْعَ المُمْتَنّ عليّ. وقال: اضرِبْ الجيْشَ بالجيْشِ. تحْظَ بلَذّةِ العيشِ. فحسَرْتُ عن ساعِدِ النّهِمِ. وحملْتُ حملَةَ الفيلِ المُلتَهِمِ. وهو يلْحَظُني كما يلحَظُ الحَنِقُ. ويوَدّ منَ الغيْظِ لو أختَنِقُ. حتى إذا هلقَمْتُ النّوعينِ. وغادرْتُهُما أثَراً بعْدَ عينٍ. أقرَدْتُ حيْرَةً في إظْلالِ البَياتِ. وفِكرةً في جَوابِ الأبْياتِ. فما لبِثَ أن قام. وأحضَرَ الدّواةَ والأقْلامَ. وقال: قد ملأتَ الجرابَ. فأمْلِ الجَوابَ. وإلا فتهيّأ إنْ نكَلْتَ. لاغْتِرامِ ما أكلْتَ! فقلْتُ له: ما عِندي إلا التّحقيقُ. فاكتُبِ الجوابَ وباللهِ التوْفيقُ:

قُلْ لمَنْ يُلغِزُ المســــائِلَ إنـي *** كاشِفٌ سِرّها الذي تُخْفــــيهِ

 

إنّ ذا الميّتَ الـــذي قدّمَ الشّرْ *** عُ أخا عِرسِــــهِ على ابنِ أبيهِ

 

رجُـــلٌ زوّجَ ابنَهُ عنْ رِضاهُ *** بحَماةٍ لهُ ولا غَـرْوَ فـــــيهِ

 

ثمّ ماتَ ابنُهُ وقدْ عـلِـقَـتْ مـنْ *** هُ فـجـاءتْ بـابـنٍ يسُـرّ ذويهِ

 

فهُو ابنُ ابـنِـهِ بـغـيرِ مِـراءٍ *** وأخو عِـرسِـهِ بـلا تَـمْـويهِ

 

وابنُ الابنِ الصّريحُ أدْنى إلى الـجَـ *** دّ وأوْلـى بـإرْثِـهِ مـنْ أخـيهِ

 

فلِذا حينَ مـاتَ أوجِـبَ لـلـزّوْ *** جَةِ ثُمْنُ التُـراثِ تـسـتَـوفـيهِ

 

وحوى ابنُ ابنِهِ الذي هوَ في الأصْـ *** لِ أخوها مـنْ أمّـهـا بـاقِـيهِ

 

وتخلّى الأخُ الشّـقـيقُ مـنَ الإرْ *** ثِ وقُلْنا يكـفـيكَ أن تـبـكـيهِ

 

هاكَ مني الفُتْيا التي يحْـتَـذيهـا *** كلُّ قاضٍ يقضي وكـلُّ فَـقـيهِ

قال: فلمّا أثبَتّ الجوابَ. واستَثبتُّ منهُ الصّوابَ. قال لي: أهلَكَ والليلَ. فشمِّرِ الذّيْلَ. وبادرِ السّيْلَ! فقلتُ: إني بِدارِ غُربَةٍ. وفي إيوائي أفضَلُ قُربَةٍ. لا سيّما وقد أغدَفَ جُنْحُ الظّلامِ. وسبّحَ الرّعدُ في الغَمامِ. فقال: اغْرُبْ عافاكَ اللهُ إلى حيثُ شِيتَ. ولا تطمَعْ في أنْ تبيتَ. فقلتُ: ولمَ ذاكَ. معَ خُلوّ ذَراكَ؟ قال: لأني أنعَمْتُ النظَرَ. في التِقامِكَ ما حضَرَ. حتى لمْ تُبْقِ ولمْ تذَرْ. فرأيتُك لا تنظُرُ في مصلحَتِكَ. ولا تُراعي حِفْظَ صحّتِكَ. ومَنْ أمعَنَ فيما أمعنْتَ. وتبطّنَ ما تبطّنْتَ. لم يكَدْ يخْلُصُ منْ كِظّةٍ مُدنِفَةٍ. أو هيْضَةٍ مُتلِفَةٍ. فدَعْني باللهِ كَفافاً. واخْرُجْ عني ما دُمْتَ مُعافًى. فوَالذي يُحْيي ويُميتُ. م لكَ عِندي مَبيتٌ! فلمّا سمِعْتُ ألِيّتَهُ. وبلَوْتُ بليّتَهُ. خرجْتُ منْ بيِته بالرّغْمِ. وتزوّدِ الغَمِّ. تجودُني السّماءُ. وتخْبِطُ بيَ الظّلْماءُ. وتَنبَحُني الكِلابُ. وتتقاذَفُ بيَ الأبوابُ. حتى ساقَني إلَيكَ لُطْفُ القضاء. فشُكْراً ليَدِه البَيضاء. فقلتُ لهُ: أحْبِبْ بلِقائِكَ المُتاحِ. إلى قلْبيَ المُرْتاحِ! ثمّ أخذَ يفْتَنّ بحِكاياتِهِ. ويُشْمِطُ مُضحِكاتِهِ بمُبْكِياتِه. إلى أنْ عطَسَ أنْفُ الصّباحِ. وهتَفَ داعي الفَلاحِ. فتأهّبَ لإجابَةِ الدّاعي. ثمّ عطَفَ إلى وَداعي. فعُقْتُه عنِ الانبِعاثِ. وقلتُ: الضّيافَةُ ثلاثٌ! فناشَدَ وحرّجَ. ثمّ أمَّ المَخرَجَ. وأنشدَ إذ عرّجَ:

لا تزُرْ منْ تُحبّ في كلّ شهرٍ *** غيرَ يومٍ ولا تـزِدْهُ عـلـيهِ

 

فاجْتِلاءُ الهِلالِ في الشهْرِ يومٌ *** ثمّ لا تنظُرُ الـعُـيونُ إلـيْهِ

 

قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فودّعتُهُ بقلْبٍ دامي القُرْحِ. وودِدْتُ لوْ أنّ ليلَتي بطيئَةُ الصُبْحِ.

=======================

مقامات الحريري/المقامة القطيعية

< مقامات الحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: عاشَرتُ بقطيعَةِ الرّبيعِ. في إبّانِ الرّبيعِ. فِتيةً وجوهُهُمْ أبلَجُ من أنوارِهِ. وأخلاقُهُمْ أبهَجُ من أزهارِهِ. وألفاظُهُمْ أرقُّ من نسيمِ أسحارِهِ. فاجتَلَيتُ منهُمْ ما يُزْري على الرّبيعِ الزّاهِرِ. ويُغْني عن رنّاتِ المَزاهِرِ. وكنّا تقاسَمْنا على حِفْظِ الوِدادِ. وحَظْرِ الاستِبْدادِ. وأن لا يتفرّدَ أحدُنا بالتِذاذٍ. ولا يستأثِرَ ولو برَذاذٍ. فأجْمَعْنا في يومٍ سَما دَجْنُهُ. ونَما حُسنُه. وحكَمَ بالاصْطِباحِ مُزْنُهُ. على أنْ نلتَهي بالخُروجِ. إلى بعضِ المُروجِ. لنُسرِّحَ النّواظِرَ. في الرّياضِ النّواضِرِ. ونصْقُلَ الخواطِرَ. بشَيْمِ المَواطِرِ. فبرَزْنا ونحنُ كالشّهورِ عِدّةً. وكنَدْمانَيْ جَذيمَةَ مودّةً. إلى حَديقَةٍ أخذَتْ زُخرُفَها وازّيّنَتْ. وتنوّعتْ أزاهيرُها وتلوّنَتْ. ومعَنا الكُمَيتُ الشَّموسُ. والسُقاةُ الشُّموسُ. والشّادي الذي يُطرِبُ السّامِعَ ويُلهِيهِ. ويَقْري كلَّ سمْعٍ ما يشتَهيهِ. فلمّا اطمأنّ بِنا الجُلوسُ. ودارَتْ عليْنا الكؤوسُ. وغَلَ علَيْنا ذِمْرٌ. عليهِ طِمْرٌ. فتجَهّمْناهُ تجهُّمَ الغيدِ الشِّيبَ. ووجَدْنا صفْوَ يومِنا قد شِيبَ. إلا أنهُ سلّمَ تسليمَ أولي الفَهْمِ. وجلسَ يَفُضّ لَطائِمَ النّثْر والنّظْمِ. ونحنُ ننْزَوي منِ انبِساطِهِ. وننْبَريْ لطَيِّ بِساطِهِ. إلى أنْ غنّى شادِينا المُغْرِبُ. ومُغرِّدُنا المُطْرِبُ:

إلامَ سُعادُ لا تَصلِينَ حَـبْـلـي *** ولا تأوينَ لي مـمّـا أُلاقـي

 

صبَرْتُ عليكِ حتى عيلَ صبْري *** وكادَتْ تبلُغُ الرّوحُ التّـراقـي

 

وها أنا قدْ عزَمْتُ على انتِصافٍ *** أُساقي فيهِ خِلّي ما يُسـاقـي

 

فإنْ وَصْلاً ألذُّ بـهِ فـوَصْـلٌ *** وإنْ صَرْماً فصرْمٌ كالطّـلاقِ

 

قال: فاسَفْهَمْنا العابثَ بالمَثاني. لِمَ نصَبَ الوصْلَ الأوّلَ ورفَعَ الثّاني؟ فأقْسَمَ بتُربَةِ أبَوَيْه. لقدْ نطَقَ بما اختارَهُ سيبوَيه. فتشَعّبَتْ حينئذٍ آراءُ الجمْع. في تجويزِ النّصبِ والرّفعِ. فقالتْ فِرقَةٌ: رفْعُهُما هوَ الصّوابُ. وقالتْ طائِفةٌ: لا يجوزُ فيهِما إلا الانتِصابُ. واستَبْهَمَ على آخرينَ الجوابُ. واستعَرَ بينَهُمُ الاصطِخابُ. وذلِكَ الواغِلُ يُبْدي ابتِسامَ ذي معرِفةٍ. وإنْ لمْ يفُهْ ببِنْتِ شفَةٍ. حتى إذا سكنَتِ الزّماجِرُ. وصمتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. قال: يا قومُ أنا أُنَبّئُكُمْ بتأويلِهِ. وأميّزُ صَحيحَ القوْلِ منْ عَليلِهِ. إنهُ لَيَجوزُ رفْعُ الوصْلَينِ ونصْبُهُما. والمُغايَرَةُ في الإعرابِ بينَهُما. وذلِكَ بحسَبِ اختِلافِ الإضْمارِ. وتقْديرِ المحْذوفِ في هَذا المِضْمارِ. قال: ففَرَطَ منَ الجَماعةِ إفْراطٌ في مُماراتِهِ. وانخِراطٌ إلى مُباراتِهِ. فقال: أما إذا دعوْتُمْ نَزالِ. وتلبّبْتُمْ للنّضالِ. فما كلِمَةٌ هيَ إنْ شِئْتُمْ حرْفٌ محْبوبٌ. أوِ اسمٌ لِما فيهِ حرْفٌ حَلوبٌ؟ وأي اسمٍ يترَدّدُ بينَ فرْدٍ حازِمٍ. وجمْعٍ مُلازِمٍ؟ وأيّةُ هاءٍ إذا التحقَتْ أماطَتِ الثِّقَلَ. وأطلَقَتِ المُعتقَلَ؟ وأينَ تدخُلُ السينُ فتعزِلُ العامِلَ. منْ غيرِ أن تُجامِلَ؟ وما منْصوبٌ أبَداً على الظّرْفِ. لا يخْفِضُهُ سوى حرْفٌ؟ وأيّ مُضافٍ أخَلّ منْ عُرَى الإضافَةِ بعُرْوَةٍ. واختلَفَ حُكمُهُ بينَ مساءٍ وغُدوَةٍ؟ وما العامِلُ الذي يتّصلُ آخِرُهُ بأوّلِهِ. ويعمَلُ معكوسُهُ مثلَ عمَلِه؟ وأيّ عمَلٍ نائِبُهُ أرْحَبُ منهُ وَكْراً. وأعظَمُ مَكْراً. وأكثَرُ للهِ تَعالى ذِكْراً؟ وفي أيّ موطِنٍ تلبَسُ الذُّكْرانُ. براقِعَ النّسوانِ. وتبرُزُ ربّاتُ الحِجالِ. بعَمائِمِ الرّجالِ؟ وأينَ يجِبُ حِفظُ المَراتِبِ. على المضْروبِ والضّارِبِ؟ وما اسمٌ لا يُعرَفُ إلا باستِضافَةِ كلِمتَينِ. أوِ الاقتِصارِ منه على حرْفَينِ. وفي وَضْعِهِ الأوّلِ التِزامٌ. وفي الثّاني إلْزامٌ؟ وما وصْفٌ إذا أُردِفَ بالنّونِ. نقَصَ صاحِبُهُ في العُيونِ. وقُوّمَ بالدّونِ. وخرَجَ منَ الزَّبونِ. وتعرّضَ للهُونِ؟ فهَذِهِ ثِنْتا عشْرَةَ مسألةً وفْقَ عدَدِكُمْ. وزِنَةَ لَدَدِكُمْ. ولو زِدْتُمْ زِدْنا. وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا. قال المُخبرُ بهذِهِ الحِكايةِ: فورَدَ عليْنا من أحاجِيهِ اللاّتي هالَتْ. لمّا انْهالَتْ. ما حارَتْ لهُ الأفكارُ وحالَتْ. فلمّا أعجزَنا العَوْمُ في بحرِهِ. واستسْلَمَتْ تَمائِمُنا لسِحْرِهِ. عدَلْنا منِ استِثْقالِ الرّؤيَةِ لهُ إلى استِنْزالِ الرّوايَةِ عنهُ. ومِنْ بَغْيِ التّبرّمِ بهِ إلى ابتِغاء التعلّمِ منهُ. فقال: والذي نزّلَ النّحْوَ في الكَلامِ. منزِلَةَ المِلْحِ في الطّعامِ. وحجَبَهُ عن بصائِرِ الطّغامِ. لا أنَلْتُكُمْ مَراماً. ولا شفيْتُ لكُمْ غَراماً. أو تُخوّلَني كلُّ يدٍ. ويخْتَصّني كلٌ منكُم بيَدٍ. فلمْ يبْقَ في الجماعةِ إلا منْ أذْعَنَ لحُكمِهِ. ونبَذَ إلَيْهِ خُبْأةَ كُمّهِ. فلمّا حصلَتْ تحتَ وِكائِهِ. أضرَمَ شُعلَةَ ذكائِهِ. فكشَفَ حينئذٍ عن أسْرارِ ألْغازِهِ. وبدائِعِ إعْجازِهِ. ما جَلا بهِ صدأ الأذْهانِ. وجلّى مطْلَعَهُ بنورِ البُرْهانِ. قال الرّاوي: فهِمْنا. حينَ فهِمْنا. وعجِبْنا. إذْ أُجِبْنا. وندِمْنا. على ما ندّ مِنّا. وأخذْنا نعتَذِرُ إليهِ اعتِذارَ الأكْياسِ. ونعْرِضُ عليهِ ارتِضاعَ الكاسِ. فقالَ: مأرَبٌ لا حَفاوةٌ. ومشْرَبٌ لمْ يبْقَ لهُ عندي حَلاوَةٌ. فأطَلْنا مُراودَتَهُ. ووالَيْنا مُعاوَدَتَهُ. فشمخَ بأنفِهِ صَلَفاً. ونأى بجانِبِه أنَفاً. وأنشدَ:

نَهاني الشيْبُ عمّا فـيهِ أفْـراحـي *** فكيفَ أجمَعُ بين الـرّاحِ والـرّاحِ

 

وهل يجوزُ اصطِباحي من مُعتّـقةٍ *** وقد أنارَ مشيبُ الرّأسِ إصْباحـي

 

آلَيتُ لا خامرَتني الخمرُ ما علِقَـتْ *** روحي بجِسْمي وألفاظي بإفْصاحي

 

ولا اكتسَتْ لي بكاساتِ السُلافِ يدٌ *** ولا أجَلتُ قِداحـي بـين أقْـداحِ

 

ولا صرَفْتُ إلى صِرْفٍ مُشَعشَـعةٍ *** همّي ولا رُحتُ مُرْتاحاً إلى راحِ

 

ولا نظَمْتُ علـى مـشـمـولَةٍ أبـداً *** شملي ولا اخترْتُ نَدماناً سوى الصّاحي

 

مَحا المشيبُ مِراحي حينَ خطّ عـلـى *** رأسي فأبغِضْ به من كـاتِـبٍ مـاحِ

 

ولاحَ يلْحَى على جرّي العِـنـانَ إلى *** ملْهًى فسُـحْـقـاً لـهُ مـن لائِحٍ لاحِ

 

ولوْ لهَوْتُ وفَـوْدِي شـائِبٌ لـخَـبـا *** بينَ المصابيحِ من غسّانَ مِصْبـاحـي

 

قومٌ سَجاياهُـمُ تـوْقـيرُ ضَـيْفِـهِـمِ *** والشّيبُ ضيفٌ له التّوْقـيرُ يا صـاحِ

ثمّ إنّه انْسابَ انسيابَ الأيْمِ. وأجْفلَ إجْفالَ الغيْمِ. فعلِمْتُ أنهُ سِراجُ سَروجَ. وبدْرُ الأدبِ الذي يجْتابُ البُروجَ. وكان قُصارانا التّحرُّقَ لبُعدِهِ. والتّفرُّقَ منْ بعدِهِ.

تفسير ما أودع هذه المقامة

من النكت العربية والأحاجي النحوية

أما الكلمة التي هي حرف محبوب أو اسم لما فيه حرف حلوب: فهي نعم إن أردت بها تصديق الأخبار أو العدة عند السؤال فهي حرف، وإن عنيت بها الإبل فهي اسم، والنعم تذكر وتؤنث وتطلق على الإبل وعلى كل ماشية فيها إبل، وفي الإبل الحرف وهي النّاقة الضامة، سميت حرفاً تشبيهاً لها بحرف السيف، وقيل إنه الضخمة تشبيهاً لها بحرف الجبل.

 

وأما الاسم المردد بين فرد حازم وجمع ملازم: فهي سراويل، قال بعضهم: هو واحد وجمعه سراويلات، فعلى هذا القول هو فرد. وكنى عن ضمه الخصر بأنه حازم. وقال آخرون: بل هو جمع واحده سروال مثل شملال وشماليل وسربال وسرابيل، فهو على هذا القول جمع. ومعنى قوله ملازم أي لا ينصرف، وإنّم لم ينصرف هذا النوع من الجمع وهو كل جمع ثالثه ألف وبعدها حرف مشدد أو حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن لثقله وتفرده دون غيره من الجموع بأن لا نظير له في الأسماء الآحاد. وقد كنى في هذه الأحجية عما لا ينصرف بالملازم كما كنى في التي قبلها عما ينصرف باللازم.

 

وأما الهاء التي إذا التحقت أماطت الثقل وأطلقت المعتقل: هي الهاء اللاحقة بالجمع المقدم ذكره كقولك: صيارفة وصياقلة، فينصرف هذا الجمع عند التحاق الهاء بها لأنها قد أصارته إلى أمثال الآحاد نحو رفاهية وكراهية، فخف بهذا السبب وصرف لهذه العلة. وقد كنى في هذه الأحجية عما لا ينصرف بالمعتقل كما كنى في التي قبلها عما لا ينصرف بالملازم.

 

وأما السين التي تعزل العامل من غير أن تجامل: فهي التي تدخل على الفعل المستقبل وتفصل بينه وبين أن التي كانت قبل دخولها من أدوات النصب فيرتفع حينئذ الفعل وتنتقل أن عن كونها الناصبة للفعل إلى أن تصير المخففة من الثقيلة، وذلك كقوله تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى، وتقديره: علم أنه سيكون.

 

وأما المنصوب على الظرف الذي لا يخفضه سوى حرف: فهو عند إذ لا يجره غير من خاصة، وقول العامة ذهبت إلى عنده لحن.

 

وأما المضاف الذي أخل من عرى الإضافة بعروة واختلف حكمه بين مساء وغدوة: فهو لدن، ولدن من الأسماء الملازمة للإضافة وكل ما يأتي بعدها مجرور به إلا غدوة فإن العرب نصبتها بلدن لكثرة استعمالهم إياها في الكلام ثم نوّنتها أيضاً ليتبين بذلك أنها منصوبة لا أنها من نوع المجرورات التي لا تنصرف. وعند بعض النحويين أن لدن بمعنى عند، والصحيح أن بينهما فرقاً لطيفاً وهو أن عند يشتمل معناها على ما هو في ملكك ومكنتك مما دنا منك وبعد عنك، ولدن يختص معناها بما حضرك وقرب منك.

 

وأما العامل الذي يتصل آخره بأوله ويعمل معكوسه مثل عمله: فهو يا، ومعكوسه أي، وكلتاهما من حروف النداء وعملهم في الاسم المنادى سيان وإن كانت يا أجول في الكلام وأكثر في الاستعمال، وقد اختار بعضهم أن ينادى بأي القريب فقط كالهمزة.

 

وأما العامل الذي نائبه أرحب منه وكراً وأعظم مكراً وأكثر لله تعالى ذكراً: فهو باء القسم، وهذه الباء هي أصل حروف القسم بدلالة استعمالها مع ظهور فعل القسم في قولك: أقسم بالله، ولدخولها أيضاً على المضمر كقولك: بك لأفعلن، وإنما أبدلت الواو منها في القسم لأنهما جميعاً من حروف الشفة ثم لتقارب معنييهم لأن الواو تفيد الجمع والباء تفيد الإلصاق وكلاهما متفق والمعنيان متقاربان، ثم صارت الواو المبدلة من الباء أدور في الكلام وأعلق بالأقسام ولهذا ألغز بأنه أكثر لله تعالى ذكراً. ثم إن الواو أكثر موطناً من الباء لأن الباء لا تدخل إلا على الاسم ولا تعمل غير الجر، والواو تدخل على الاسم والفعل والحرف وتجر تارة بالقسم وتارة بإضمار رب وتنتظم أيضاً مع نواصب الفعل وأدوات العطف فلهذا وصفها برحب الوكر وعظم المكر.

وأما الموطن الذي يلبس فيه الذكران براقع النسوان وتبرز فيه ربات الحجال بعمائم الرجال: فهو أول مراتب العدد المضاف وذلك ما بين الثلاثة إلى العشرة فإنه يكون مع المذكر بالهاء ومع المؤنث بحذفها، كقوله تعالى: سخره عليهم سبع ليال وثمانية أيام، والهاء في هذا الموطن من خصائص المؤنث كقولك: قائم وقائمة وعالم وعالمة، فقد رأيت كيف انعكس في هذا الموطن حكم المذكر والمؤنث حتى انقلب كل منهما في ضد قالبه وبرز في بزة صاحبه.

وأما الموضع الذي يجب فيه حفظ المراتب على المضروب والضارب: فهو حيث يشتبه الفاعل بالمفعول لتعذر ظهور علامة الإعراب فيهما أو في أحدهما، وذلك إذا كانا مقصورين مثل موسى وعيسى، أو من أسماء الإشرة نحو ذاك وهذا، فيجب حينئذ لإزالة اللبس إقرار كل منهما في رتبته ليعرف الفاعل منهما بتقدمه والمفعول بتأخره.

وأما الاسم الذي لا يفهم إلا باستضافة كلمتين أو الاقتصار منه على حرفين: فهو مهما، وفيها قولان: أحدهما أنها مركبة من مه التي هي بمعنى اكفف ومن ما، والقول الثاني، وهو الصّحيح، إن الأصل فيها م فزيدت عليها ما أخرى كما تزاد على أن، فصار لفظها ما ما فثقل عليهم توالي كلمتين بلفظ واحد فأبدلوا من ألف ما الأولى هاء فصارتا مهما. ومهما من أدوات الشرط والجزاء ومتى لفظت بها لم يتم الكلام ولا عقل المعنى إلا بإيراد كلمتين بعدها كقولك: مهما تفعل افعل، وتكون حينئذ ملتزماً للفعل. وإن اقتصرت منها على حرفين وهما مه التي بمعنى اكفف فهم المعنى وكنت ملزماً من خاطبته أن يكف.

وأما الوصف الذي إذا أردف بالنون نقص صاحبه في العيون وقوم بالدون وخرج من الزبون وتعرض للهون: فهو ضيف إذا لحقته النون استحال إلى ضيفن، وهو الذي يتبع الضيف، وينزل في النقد منزلة الزيف.

===================

مقامات الحريري/المقامة القهقرية

< مقامات الحريري

حدّث الحارثُ بنُ همّام قال: لحظْتُ في بعضِ مطارِحِ البَينِ. ومطامِحِ العينِ. فِتيَةً عليهِمْ سِيما الحِجى. وطُلاوَةُ نُجومِ الدُجى. وهمْ في مُماراةٍ مشتَدّةِ الهُبوبِ. ومُباراةٍ مشتطّةِ الأُلْهوبِ. فهزّني لقَصْدِهمْ هوى المُحاضرَةِ. واستِحْلاءُ جنى المُناظرةِ. فلمّا التحقْتُ برهْطِهِمْ. وانتظمْتُ في سِمْطِهمْ. قالوا: أأنتَ ممّنْ يُبْلى في الهَيْجاء. ويُلْقي دَلْوَهُ في الدِّلاء؟ فقلت: بل أنا منْ نظّارَةِ الحرْبِ. لا منْ أبناء الطّعْنِ والضّرْبِ. فأضْرَبوا عن حِجاجي. وأفاضوا في التّحاجي. وكانَ في بحبوحةِ حلْقَتِهِمْ. وإكْليلِ رُفقَتِهِمْ. شيخٌ قد برَتْهُ الهُمومُ. ولوّحَتْهُ السَّمومُ. حتى عادَ أنْحلَ. منْ قلَمٍ وأقْحلَ منْ جلَمٍ. إلا أنهُ كان يُبدي العُجابَ. إذا أجابَ. ويُنْسي سحْبانَ. كلّما أبانَ. فأُعجِبْتُ بما أوتيَ من الإصابَةِ. والتّبريزِ على تلكَ العِصابةِ. وما زالَ يفضَحُ كلَّ مُعمًّى. ويُصْمي في كلّ مرْمًى. إلى أن خلَتِ الجِعابُ. ونفِدَ السّؤالُ والجوابُ. فلما رأى إنْفاضَ القوْمِ. واضْطِرارَهُمْ إلى الصّومِ. عرّضَ بالمُطارَحَةِ. واستأذنَ في المُفاتَحةِ. فقالوا له: حبّذا. ومنْ لنا بِذا؟ فقال: أتعرِفونَ رِسالةً أرْضُها سماؤها. وصُبحُها مساؤها؟ نُسِجَتْ على مِنوالَينِ. وتجلّتْ في لوْنَينِ. وصلّتْ إلى جِهَتَينِ. وبدتْ ذات وجهَينِ. إنْ بزغَتْ منْ مشرِقِها. فناهيكَ برَونَقِها. وإنْ طلعَتْ منْ مغرِبِها. فَيا لعَجَبِها! قال: فكأنّ القومَ رُموا بالصُّماتِ. أو حقّتْ عليهِمْ كلمةُ الإنْصاتِ. فما نبَسَ منهُمْ إنسانٌ. ولا فاهَ لأحدِهِمْ لِسانٌ. فحينَ رآهُم بُكْماً كالأنْعامِ. وصُموتاً كالأصْنامِ. قال لهُمْ: قدْ أجّلتُكُمْ أجَلَ العِدّةِ. وأرخَيت لكُمْ طِوَلَ المُدّةِ. ثم هاهُنا مجمَعُ الشّمْلِ. وموقِفُ الفصْلِ. فإنْ سمحَتْ خواطرُكُمْ مدَحْنا. وإنْ صلدَتْ زِنادُكُمْ قدَحْنا. فقالوا لهُ: واللهِ ما لَنا في لُجّةِ هذا البحرِ مسبَحٌ. ولا في ساحِلِهِ مسرَحٌ. فأرِحْ أفكارَنا منَ الكدّ. وهنّئِ العطيّةَ بالنّقْدِ. واتّخِذْنا إخواناً يثِبونَ إذا وثَبْتَ. ويُثيبونَ متى استَثَبْتَ. فأطْرَقَ ساعةً. ثمّ قال: سمْعاً لكُمْ وطاعةً! فاستَمْلوا مني. وانْقُلوا عني: الإنسانُ. صَنيعةُ الإحسانِ. وربُّ الجَميلِ. فِعْلُ النّدْبِ. وشيمَةُ الحُرّ. ذخيرَةُ الحمْدِ. وكسْبُ الشُكْرِ. استِثْمارُ السّعادةِ. وعُنوانُ الكرَمِ. تباشيرُ البِشْرِ. واستِعْمالُ المُداراةِ يوجِبُ المُصافاةَ. وعقْدُ المحبّةِ يقتَضي النُصْحَ. وصِدْقُ الحديثِ. حِليةُ اللّسانِ. وفصاحَةُ المنطِقِ. سحرُ الألْبابِ. وشرَكُ الهوى. آفَةُ النّفوسِ. وملَلُ الخلائقِ. شَينُ الخلائقِ. وسوءُ الطّمعِ. يُبايِنُ الورَعَ. والتِزامُ الحَزامَةِ. زِمامُ السّلامَةِ. وتطلُّبُ المثالِبِ. شرُّ المَعايِبِ. وتتبُّعُ العثَراتِ. يُدْحِضُ المودّاتِ. وخُلوصُ النيّةِ. خُلاصةُ العطيّةِ. وتهنئةُ النّوالِ. ثمَنُ السّؤالِ. وتكلُّفُ الكُلَفِ. يسهِّلُ الخَلَفَ. وتيقُّنُ المَعونَةِ. يُسَنّي المؤونَةَ. وفضْلُ الصّدْرِ. سعَةُ الصّدرِ. وزينَةُ الرُعاةِ. مقْتُ السُعاةِ. وجَزاءُ المدائِحِ. بثُّ المَنائِحِ. ومهْرُ الوسائِلِ. تشفيعُ المسائِلِ. ومجلَبَةُ الغَوايةِ. استِغْراقُ الغايةِ. وتجاوزُ الحدّ. يُكِلّ الحدَّ. وتعدّي الأدَبِ. يُحبِطُ القُرَبَ. وتناسي الحُقوقِ. يُنشِئُ العُقوقَ. وتحاشي الرِّيَبِ. يرفَعُ الرُتَبَ. وارتِفاعُ الأخطارِ. باقتِحامِ الأخطارِ. وتنوّهُ الأقْدارِ. بمؤاتاةِ الأقْدارِ. وشرَفُ الأعْمالِ. في تقْصيرِ الآمالِ. وإطالةُ الفِكرَةِ. تنقيحُ الحِكمَةِ. ورأسُ الرّئاسةِ. تهذُّبُ السّياسَةِ. ومع اللّجاجَةِ. تُلْغى الحاجةُ. وعندَ الأوْجالِ. تتفاضَلُ الرّجالُ. وبتفاضُلِ الهِمَمِ. تتفاوتُ القِيَمُ. وبتزيُّدِ السّفيرِ. يهِنُ التّدبيرُ. وبخلَلِ الأحوالِ. تتبيّنُ الأهْوالُ. وبموجَبِ الصّبرِ. ثمَرَةُ النّصْرِ. واستِحقاقُ الإحْمادِ. بحسَبِ الاجْتِهادِ. ووجوبُ المُلاحظَةِ. كِفاءُ المُحافظَةِ. وصفاءُ الموالي. بتعهُّدِ المَوالي. وتحلّي المُروءاتِ. بحِفْظِ الأماناتِ. واختِبارُ الإخْوانِ. بتخْفيفِ الأحْزانِ. ودفْعُ الأعْداء. بكفّ الأودّاء.

 

وامتِحانُ العُقَلاء. بمُقارَنَةِ الجُهَلاء. وتبصُّرُ العَواقِبِ. يؤمنُ المَعاطِبَ. واتّقاءُ الشُنْعَةِ. ينشُرُ السُمْعَةَ. وقُبْحُ الجَفاء. يُنافي الوَفاء. وجوهَرُ الأحْرارِ. عندَ الأسْرارِ. ثمّ قال: هذهِ مِئَتا لفظَةٍ. تحتوي على أدَبٍ وعِظَةٍ. فمَنْ ساقَها هذا المَساقَ. فلا مِراءَ ولا شِقاقَ. ومنْ رامَ عكْسَ قالَبِها. وأنْ يردّها على عقِبِها. فلْيَقُلْ: الأسْرارُ. عندَ الأحرارِ. وجوهرُ الوَفاء. ينافي الجَفاء. وقُبْحُ السُمعةِ. ينشُرُ الشُنعَةَ. ثمّ على هذا المسحَبِ فليَسْحَبْها. ولا يرْهَبْها. حتى تكونَ خاتِمَةُ فِقَرِها. وآخِرَةُ دُرَرِها: ورَبُّ الإحسانِ. صنيعَةُ الإنسانِ. قال الراوي: فلمّا صدَعَ برسالَتِه الفَريدةِ. وأُملوحَتِهِ المُفيدةِ. علِمْنا كيفَ يتفاضَلُ الإنْشاءُ. وأنّ الفضْلَ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ. ثمّ اعْتَلَقَ كلٌ منّا بذَيلِه. وفلَذَ لهُ فِلذَةً من نيْلِهِ. فأبى قَبولَ فِلْذَتي. وقال: لستُ أرْزأُ تلامِذَتي. فقلتُ له: كُنْ أبا زيدٍ على شُحوبِ سَحنتِكَ. ونُضوبِ ماء وجْنتِكَ. فقال: أنا هوَ على نُحولي وقُحولي. وقشَفِ مُحولي. فأخذْتُ في تثريبِه. على تشْريقِه وتغريبِه. فحوْلَقَ واسترْجَعَ. ثمّ أنشدَ منْ قلْبٍ موجَعٍ:

سَلَّ الزّمانُ عليّ عضْبَـهْ *** ليَروعَني وأحَدَّ غَـرْبَـهْ

 

واستَلّ منْ جَفْنـي كَـرا *** هُ مُراغِماً وأسالَ غَربَـهْ

 

وأجالَني فـي الأفْـقِ أطْ *** وي شرْقَهُ وأجوبُ غرْبَهْ

 

فبِـكُـلّ جـوٍّ طـلْـعَةٌ *** في كلّ يومٍ لي وغَرْبَـهْ

 

وكذا المُغرِّبُ شخـصُـهُ *** متغرّبٌ ونواهُ غـرْبَـهْ

 

ثمّ ولّى يجُرّ عِطفَيْهِ. ويخطِرُ بيَدَيْهِ. ونحنُ بين متلفّتٍ إليهِ. ومتهافِتٍ عليهِ. ثمّ لمْ نلبَثْ أن حللْنا الحِبى. وتفرّقنا أياديَ سَبا.

=============================

مقامات الحريري/المقامة الكرجية

  مقامات الحريري

حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: شتَوْتُ بالكَرَجِ لدَينٍ أقتَضيهِ. وأرَبٍ أقْضيهِ. فبلَوْتُ منْ شِتائِها الكالِحِ. وصِرّها النّافِحِ. ما عرّفَني جَهْدَ البَلاء. وعكَفَ بي على الاصْطِلاء. فلمْ أكُنْ أُزايلُ وِجاري. ولا مُستَوْقَدَ ناري. إلا لضَرورَةٍ أُدفَعُ إليْها. أو إقامةِ جماعةٍ أحافِظُ عليه. فاضطُررْتُ في يومٍ جَوُّهُ مُزْمَهِرٌّ. ودَجْنُهُ مكفَهِرٌّ. إلى أن برَزْتُ منْ كِناني. لمُهِمٍّ عَناني. فإذا شيخٌ عاري الجِلدَةِ. بادي الجُردَةِ. وقدِ اعتَمّ برَيْطَةٍ. واستَثْفَر بفُوَيطَةٍ. وحوالَيهِ جمْعٌ كَثيفُ الحواشي. وهو يُنشِدُ ولا يُحاشي:

يا قومِ لا يُنبِئكُـمُ عـن فَـقـري *** أصْدَقُ من عُرْيي أوانَ الـقُـرِّ

 

فاعتَبِروا بِما بَـدا مـنْ ضُـرّي *** باطِنَ حالي وخَـفِـيَّ أمْـري

 

وحاذِروا انقِلابَ سِلْـمِ الـدهْـرِ *** فإنني كُنـتُ نَـبـيهَ الـقـدْرِ

 

آوي إلى وَفْـرٍ وحـدٍّ يَفْـري *** تُفيدُ صُفري وتُبـيدُ سُـمْـري

 

وتشتَكي كُومـي غَـداةَ أقْـري *** فجرّدَ الدّهرُ سُـيوفَ الـغـدْرِ

 

وشَنّ غاراتِ الرّزايا الـغُـبْـرِ *** ولمْ يزَلْ يسْحَـتُـنـي ويَبْـري

 

حتى عفَتْ داري وغـاضَ دَرّي *** وبارَ سِعْري في الوَرى وشِعْري

 

وصِرْتُ نِضْوَ فـاقَةٍ وعُـسْـرِ *** عاري المَطا مجرَّداً من قِشْري

 

كأنّني المِغزَلُ في الـتّـعـرّي *** لا دِفْءَ لي في الصِّنّ والصِّنَّبْرِ

 

غيرُ التّضحّي واصْطِلاءِ الجمْرِ *** فهلْ خِضَمٌ ذو رِداءٍ غَـمْـرِ

 

يستُرُني بمُطرَفٍ أو طِـمْـرِ *** طِلابَ وجهِ اللهِ لا لشُـكْـري

 

ثم قال: يا أرْبابَ الثّراء. الرّافِلينَ في الفِراء. مَنْ أوتيَ خيراً فليُنْفِقْ. ومنِ استَطاعَ أن يُرفِقْ فليُرْفِقْ. فإنّ الدُنْيا غَدورٌ. والدهرَ عَثورٌ. والمُكنَةَ زَورَةُ طيْفٍ. والفُرصَةُ مُزنَةُ صيفٍ. وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ. وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ. وها أنا اليومَ يا سادَتي. ساعِدي وِسادَتي. وجِلْدَتي بُرْدَتي. وحَفْنَتي جَفنَتي. فليَعتَبِرِ العاقِلُ بحالي. ولْيُبادِرْ صرْفَ اللّيالي. فإنّ السّعيدَ منِ التّعظَ بسِواهُ. واستَعدّ لمسْراهُ. فقيلَ لهُ: قد جلَوْتَ علَينا أدبَكَ. فاجْلُ لنا نسبَكَ. فقال: تبّاً لمُفتَخِرٍ. بعَظْمٍ نخِرٍ! إنّما الفخْرُ بالتُّقى. والأدَبِ المُنتَقى. ثم أنشدَ:

لعَمرُكَ ما الإنسانُ إلا ابنُ يومِه *** على ما تجلّى يومُهُ لا ابنُ أمسِهِ

 

وما الفخرُ بالعظْمِ الرّميمِ وإنّمـا *** فَخارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِـهِ

ثمّ إنّهُ جلسَ مُحقَوقِفاً. واجْرَنثَمَ مُقَفقِفاً. وقال: اللهُمّ يا مَنْ غمرَ بنوالِهِ. وأمرَ بسؤالِهِ. صلِّ على محمدٍ وآلهِ. وأعِنّي على البَرْدِ وأهْوالِهِ. وأتِحْ لي حُرّاً يؤثِرُ منْ خَصاصَةٍ. ويؤاسي ولوْ بقُصاصَةٍ. قال الراوي: فلمّا جلّى عنِ النّفْسِ العِصاميّةِ. والمُلَحِ الأصمعيّةِ. جعلَتْ ملامِحُ عيني تَعجُمُهُ. ومَرامي لحْظي تَرجُمُه. حتى استَبَنْتُ أنهُ أبو زيدٍ. وأنّ تعرّيَهُ أُحبولَةُ صيدٍ. ولمحَ هوَ أنّ عِرْفاني قد أدْركَهُ. ولمْ يأمَنْ أنْ يهتِكَهُ. فقال: أُقسِمُ بالسَّمَرِ والقمَرِ. والزُّهْرِ والزَّهَرِ. إنهُ لنْ يستُرَني إلا مَنْ طابَ خِيمُهُ. وأُشرِبَ ماءَ المُروءةِ أديمُهُ. فعقَلْتُ ما عَناهُ. وإنْ لم يدْرِ القومُ معْناهُ. وساءني ما يُعانِيهِ منَ الرِّعدَةِ. واقشِعْرارِ الجِلْدَةِ. فعمَدْتُ لفَرْوةٍ هيَ بالنّهارِ رِياشي. وفي الليلِ فِراشي. فنضَوتُها عني. وقلتُ له: اقْبَلْها مني. فما كذّبَ أنِ افْتَراها. وعيني تَراها. ثم أنشدَ:

للهِ من ألبَـسَـنـي فَـروةً *** أضحتْ من الرِّعدَةِ لي جُنّهْ

 

ألبَسنِيها واقِياً مُـهـجَـتـي *** وُقّيَ شرَّ الإنْسِ والجِـنّـهْ

 

سيَكتَسي اليومَ ثَنـائي وفـي *** غدٍ سيُكسى سُندُسَ الجَنّـهْ

 

قال: فلمّا فتَن قُلوبَ الجَماعَةِ. بافتِنانِهِ في البَراعَةِ. ألقَوْا عليْهِ منَ الفِراء المُغشّاةِ. والجِبابِ المُوشّاةِ. ما آدَهُ ثقَلُهُ. ولم يكَدْ يُقلّهُ. فانطلقَ مُستَبشِراً بالفَرجِ. مُستَسقِياً للكَرَجِ. وتبعْتُهُ إلى حيثُ ارتفَعَتِ التّقيّةُ. وبدَتِ السّماءُ نقيّةً. فقلتُ له: لَشَدّ ما قرّسَكَ البرْدُ. فلا تتعرّ منْ بعْدُ! فقال: ويْكَ ليسَ منَ العدْلِ. سُرعةُ العذْلِ! فلا تعْجَلْ بلَوْمٍ هوَ ظُلْمٌ. ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلمٌ. فوَالّذي نوّرَ الشّيبَةَ. وطيّبَ تُربَةَ طَيْبَةَ. لو لمْ أتَعرّ لرُحْتُ بالخَيبَةِ. وصفَرِ العَيبَةِ. ثمّ نزَعَ إلى الفِرارِ. وتبرقَعَ بالاكْفِهْرارِ. وقال: أمَا تعْلَمُ أنّ شِنْشِنتيَ الانتِقالُ منْ صَيدٍ إلى صيْدٍ. والانعِطافُ منْ عمْرٍو إلى زيدٍ؟ وأراكَ قد عُقتَني وعقَقْتَني. وأفَتّني أضْعافَ ما أفدْتَني. فأعْفِني عافاكَ الله منْ لغوِكَ. واسْدُدْ دوني بابَ جِدّكَ ولهْوِكَ. فجبذتُهُ جبْذَ التِّلْعابَةِ. وجعْجَعْتُ به للدُعابَةِ. وقلتُ له: واللهِ لوْ لمْ أُوارِكَ. وأُغَطِّ على عَوارِكَ. لمَما وصلْتَ إلى صِلةٍ. ولا انقلَبْتَ أكْسى منْ بصَلَةٍ. فجازِني عنْ إحساني إليْكَ. وسَتري لكَ وعلَيْكَ. بإن تسمَحَ لي بردّ الفَروَةِ. أو تُعرّفَني كافاتِ الشّتوَةِ. فنظرَ إليّ نظَرَ المتعجّبِ. وازْمهَرّ ازمِهْرارَ المتغَضّبِ. ثمّ قال: أمّا رَدّ الفَروةِ فأبْعَدُ منْ ردّ أمسِ الدّابِرِ. والمَيْتِ الغابِرِ. وأما كافاتُ الشّتْوةِ فسُبحانَ مَنْ طبَع على ذِهنِكَ. وأوْهى وِعاءَ خَزْنِكَ. حتى أُنسيتَ ما أنشدْتُكَ بالدَّسْكَرةِ. لابنِ سُكّرَةَ:

جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِـه *** سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حبَسا

 

كِنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكاسُ طِـلاً *** بعْدَ الكَبابِ وكفٌ ناعمٌ وكِـسـا

ثم قال: لَجوابٌ يَشفي. خيرٌ من جِلبابٍ يُدْفي. فاكْتَفِ بما وعَيْتَ وانْكَفي. ففارَقْتُهُ وقدْ ذهبَتْ فَروَتي لشِقْوَتي. وحصلْتُ على الرِّعدَةِ طولَ شَتْوَتي.

======================

مقامات الحريري/المقامة الكوفية

 مقامات الحريري

حكى الحارث بن همام ، قال: سمرت بالكوفة، في ليلة أديمها ذو لونين، وقمرها كتعويذٍ نمن لجين، مع رفقةٍ غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، وما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يتحفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يمل عنه، فأستهوانا السمر إلى أن غرب القمر وغلب السهر، فلما روَّق الليل البهيم، ولم يبقَ إلا التهويم، سمعنا من الباب نبأة مستنبحٍ، ثم تلتها صَكَّةُ مستفتح، فقلنا من المُلم، في الليل المُدلَهِم، فقال:

 

يا أهل ذا المغنى وقيتم شراً *** ولا لقيتم ما بقيتم ضُراً

 

قد دفع الليل الذي اكفهرا *** إلى ذراكم شَعِثاً مُغبرا

 

أخا سِفارٍ طال واسبَطَرا *** حتى أنثنى محقوقِفاً مصفرا

 

مثل هِلالِ الُأفقِ حين فترا *** وقد عرا فِناءِكُم معترا

 

وأمَّكُم دُون الأنامِ طُرّاً *** يَبغي قرى ومنكم مستقرا

 

فدونكم ضيفاً قنوعاً حرا *** يرضى بما أحلولى وما أمَرَّا

 

وينثني عنكم يَنَث البِرا

قال الحارث بن همام: فلما خَلَبَنَا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء بَرقه، ابتدرنا فتح الباب، وتلقيناه بالترحاب، وقلنا للغلام هيَّا هيَّا، وهَلُم وتَهَيّا، فقال الضيف والذي أحلني ذراكم، لا تَلمّظتُ بقراكم، أو تضمنوا لي ألا تتخذوني كَلاَّ، ولا تَجَشَموا لأجلي أكلاً، فرب آكلةٍ هاضت الآكلَ وحرمته مآكِلَ، وشرُ الأضيافِ من سام التكليف وآذى المضيف، خصوصاً أذًى يتعلق بالأجسام، ويُفضي إلى الأسقام، وما قيل في المثل الذي سار سائره:(خير العشاء سواقره) إلا ليعجل التعشي ويجتنب أكل الليل الذي يُعشي، اللهم إلا أن تَقِد نارُ الجوع، وتحول دون الهُجُوع.

قال: فكأنَه اطَّلَع على إرادتنا فرمى عن قوس عقيدتنا، لا جرم أنّا آنسناه بالتزام الشرط، وأثنينا على خُلقه السَّبط، ولما أحضر الغلام ما راج وأذكى بيننا السراج، تأملتُه فإذا هو أبو زيد. فقلت لِصحْبِي: ِليَهنئِكم الضيف الوارد بل المغنمُ البارد. فإن يكن أَفَلَ قَمَرُ الشِّعرَى، فقد طلعَ قَمَرُ الشِّعرَ، أو استسَر بَدرُ النَّثْرَةِ فقد تَبَلجَ بدرُ النَثرِ، فسَرَتْ حُمَيَّا المسرَّة فيهم، وطارت السِّنة عن مآقِيهم، ورفضوا الدَّعَة التي كانوا نَوَوها، وثابوا إلى نشرِ الفكاهَةِ بعد ما طَوَوها، وأبو زيدٍ مُكب على إعمال يديه، حتى إذا استرفع ما لديه قلت له: أطرفنا بغربية من غرائب أسمارك، وعجيبة من عجائب أسفارك...

 

فقال: لقد بلوتُ من العجائب ما لم يَرهُ الرَّاؤون، ولا رَواهُ الرَّاوُون، وإن من أعجبها ما عاينته الليلة ُقبيلَ أنتيابكم ومصيري إلى بابكم.

 

فاستخبرناه عن طُرفةِ مرآه في مَسرحِ مسراه، فقال: إن مرامي الغُربة لفظتني إلى هذه التربة، وأنا ذو مجاعةٍ وبُوسى وجرَابٍ كفُؤادِ أمِ مُوسى، فنهضت حين سجى الدجى على ما بي من الوجى، لأرتاد مُضيفاً أو أقتاد رَغيفاً. فَسَاقنِي حادي السَّغب، والقضاءُ المُكَنى أبا العجب، إلى أن وقفت على باب دارٍ فقلت على بدارٍ (شعر):

 

حُيِّتُمُ يا أهل هذا المنزل *** وعشتم في خفض عيشٍ خضلِ

 

ما عندكم لأبن سبيلٍ مرملٍ *** نضو سُرىً خابط ليلِ أَليلِ

 

جوى الحشى على الطوى مُشتمل *** ما ذاقَ مذ يوملنِ طعم المأكلِ

 

ولا له في أرضِكُم من موئِلِ *** وقد دجى جُنحُ الظلام المُسبلِ

 

وهو من الحيرة في تَملمُلِ *** فهل بهذا الربعِ عَذبُ المَنهَل

 

يقول لي ألقِ عصاكَ وأدخلِ *** وأبشر ببشرٍ وقرىً مُعجلِ

 

قال: فَبرَزَ الى جَوذر، عليه شوذر وقال (شعر):

 

وحُرْمَة الشيخِ الذي سَنَّ القِرى *** وأسس المحجوج في أم القُرى

 

ما عِندنا لِطارقٍ إذا عرى *** سوى الحديثِ والمُناخ في الذَّرا

 

وكيف يقري من نفى عنه الكرى *** طوى برى أعظُمه لما أنبرى

 

فما ترى فيما ذَكرتُ ما تَرى؟

 

فقلت: ما أصنع بمَنْزلٍ قَفْرٍ ومَنزلٍ حِلفِ فَقرٍ، ولكن يا فتى ما اسُمك فقد فتنني فَهمُك، فقال أسمي زيد ومنشئ فيد، ووردت هذه المَدَرََ أمس، مع أخوالي من بني عبس.

 

فقلت زدني إبضاحاً، عِشت ونُعشت. فقال: أخبرتني أُمي بَرَّة، وهي كأسمها بَرَّة، أنها نكحت عام الغارَة بماوان رجُلاً من سَرَاةِ سَرُوج وغسان، فلما آنس مِنها الإثقال، وكان باقعِةً فيما يُقال، ظَعَن عنها سِراً وهَلُمَّ جَرَّاً، فما يُعرف أَحَيٌ هو فيُتوقعُ أم أُودِعَ اللحد البَلقَعَ.

 

قال أبو زيد: فعلمت بصحة العلامات أنه ولدي، وصدفني عن التعرف إليه صَفَرُ يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة ودموعٍ مفضوضةٍ، فهل سمعتم ي أولي الألباب بأعجب من هذا العجاب؟

 

فقالنا:لا ومن عنده عِلمُ الكتاب، فقال:أثبتوها في عجائب الأتفاق، وخلدوها في بطون الأوراق، فما سُيِّر مِثلها في الآفاق.

 

فأحضرنا الدَّوَاةَ وأَساوِدَها، وُرَقشنا الحِكاية على ما سردها، ثم أستبطناه عن مرتآه، في أستضمام الفتاه، فقال: إذا ثقل رُدني، خَفَّ عليّ أن أكفل أبني.

 

فقلنا: إن كان يكفيك نِصابٌ من المال، ألفناه لك في الحال. فقال: وكيف لا يُقنعُني نِصاب، وهل يحتقر قَدرَهُ إلا مُصاب. (قال الراوي): فألتزم كل منا قسطاً وكتب له به قِطّا. فشكر عند ذلك الصنع وأستنفد في الثناء الوسع، حتى إنّنا أستطلنا القول وأستقللنا الطَّول، ثم إنه نشر من وَشي السَّمَر ما أزرى بالحِبَر، إلى أن أظل التنوير وجشر الصبح المنير، فقضيناها ليلة غابت شوائبها إلى أن شابت ذوائبها، وكمل سُعُودها إلى أن أنفطر عُودها، ولما ذرَّ قَرنُ الغزالة، طَمَر طُمور الغَزالة، وقال: انهض بنا لنقبض الصِّلات ونستنضر الإحالات. فقد أستطارت صُدُوع كبدي من الحنين إلى وَلدِي، فوصلت جناحه حتى سَنَّيتُ نجاحه، فحين أحرز العين في صُرَّتِه برقت أَساريرُ مَسَرتِه. وقال لي: جُزيت خيراً عن خُطا قدميك والله خليفتي عليك. فقلت: أُريد أن أتعبك لأشاهد ولدك النجيب وأُنافِثَه لكي يجيب، فنظر إلي نظرة الخادع إلى المخدوع وضحك حتى تغرغرت مُقلتاهُ بالدموع، ثم أنشد:

 

يا من تظنى السراب ماءً *** لمّا رويتُ الذي رويتُ

 

ما خِلتُ أن يستسِر مكرِي *** وأن يخيل الذي عنَيتُ

 

والله ما بَرَّةٌ بِعُرسِي *** ولا لي ابنٌ به أكتنيت

 

وأنما لي فنون سحرٍ *** أبدعت فيها وأقتديت

 

لم يحكها الأصمعي فيما *** حكى ولا حاكها الكُميتُ

 

تَخِذتُها وُصلة إلى ما *** تجنيه كفٍّى متى أشتهيت

 

ولو تعافيتُها لحالت *** حالي ولم أحوِ ما حويت

 

فمهد العذر أو فسامح *** أن كنت أَجرمت أو جَنيتُ

 

ثم إنه ودعني ومضى، وأودع قلبي جمرَ الغضى

 

===================

مقامات الحريري/المقامة المراغية

< مقامات الحريري

 

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

 

 

رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: حضَرْتُ ديوانَ النّظرِ بالمَراغَةِ. وقدْ جَرى بهِ ذكْرُ البَلاغَةِ. فأجمَعَ مَنْ حضَرَ منْ فُرْسانِ اليَراعَةِ. وأرْبابِ البَراعةِ. على أنّهُ لمْ يبْقَ مَنْ يُنقّحُ الإنْشاءَ. ويتصرّفُ فيهِ كيفَ شاءَ. ولا خلَفَ. بعْدَ السّلَفِ. مَنْ يبتَدِعُ طريقةً غَرّاء. أو يفتَرِعُ رسالةً عذْراءَ. وأنّ المُفلِقَ من كُتّابِ هذا الأوانِ. المُتمكّنَ من أزِمّةِ البَيانِ. كالعِيالِ على الأوائِلِ. ولو ملَكَ فَصاحَةَ سحْبانِ وائِلٍ. وكان بالمجْلِسِ كهْلٌ جالِسٌ في الحاشيةِ. عندَ مَواقِفِ الحاشِيَةِ. فكانَ كلّما شطّ القوْمُ في شوْطِهِمْ. ونشَروا العَجْوَةَ والنّجْوَةَ منْ نوْطِهِمْ. يُنْبئ تَخازُرُ طرْفِهِ. وتشامُخُ أنفِهِ. أنّهُ مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ. ومُجْرَمِّزٌ سيَمُدّ الباعَ. ونابِضٌ يبْري النِّبالَ. ورابِضٌ يبْغي النّضالَ. فلمّا نُثِلَتِ الكَنائِنُ. وفاءتِ السّكائِنُ. وركَدَتِ الزّعازعُ. وكفّ المُنازِعُ. وسكنَتِ الزّماجِرُ. وسكتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. أقبَلَ على الجَماعَةِ وقال: لقَدْ جئْتُمْ شيْئاً إدّاً. وجُرْتُمْ عنِ القصْدِ جِدّاً. وعظّمتُمُ العِظامَ الرُّفاتَ. وافْتَتُّمْ في المَيْلِ إلى مَنْ فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللذت، معهم انعَقَدَتِ المودّاتُ. أنَسيتُمْ يا جَهابِذَةَ النّقْدِ. ومَوابِذَةَ الحَلّ والعَقْدِ. ما أبْرَزَتْهُ طَوارِفُ القَرائِحِ. وبرّزَ فيهِ الجذَعُ على القارِحِ. منَ العِباراتِ المهَدَّبَةِ. والاستِعاراتِ المُستَعْذَبَةِ. والرّسائِلِ الموشّحَةِ. والأساجيعِ المُستَمْلَحَةِ؟ وهلْ للقُدَماء إذا أنعَمَ النّظَرَ. مَنْ حضَرَ. غيرُ المَعاني المطْروقَةِ المَوارِدِ. المعْقولَةِ الشّوارِدِ. المأثورَةِ عنهُمْ لتَقادُمِ المَوالِدِ. لا لتقدُّمِ الصّادِرِ على الوارِدِ؟ وإني لأعْرِفُ الآنَ مَنْ إذا أنْشا. وشّى. وإذا عبّرَ. حبّرَ. وإنْ أسهَبَ. أذْهَبَ. وإذا أوْجَزَ. أعْجَزَ. وإنْ بَدَهَ. شدَهَ. ومتى اخْتَرَعَ. خرَعَ. فقالَ لهُ ناظورَةُ الدّيوانِ. وعينُ أولَئِكَ الأعْيانِ: مَنْ قارِعُ هذِهِ الصّفاةِ. وقَريعُ هذِهِ الصّفاتِ؟ فقال: إنّه قِرْنُ مَجالِكَ. وقَرينُ جِدالِكَ. وإذا شِئْتَ ذاكَ فرُضْ نَجيباً. وادْعُ مُجيباً. لتَرى عَجيباً. فقال لهُ: يا هَذا إنّ البُغاثَ بأرضِنا لا يَستَنْسِرُ. والتّمييزَ عندَنا بينَ الفِضّةِ والقضة متيَسِّرٌ. وقَلَّ منِ استَهدَفَ للنّضالِ. فخلّصَ منَ الدّاء العُضالِ. أوِ استَسارَ نقْعَ الامْتِحانِ. فلمْ يُقْذَ بالامتِهانِ. فلا تُعرِّضْ عِرْضَكَ للمَفاضِحِ. ولا تُعْرِضْ عنْ نَصاحَةِ النّاصِحِ. فقال: كُلُّ امرِئٍ أعْرَفُ بوسْمِ قِدْحِهِ. وسيَتَفرّى الليلُ عنْ صُبْحِهِ. فتَناجَتِ الجَماعَةُ فيما يُسْبَرُ بهِ قُلَيْبُهُ. ويُعْمَدُ فيهِ تقْليبُهُ. فقال أحدُهُمْ: ذَرُوهُ في حِصّتي. لأرْميَهُ بحَجَرِ قِصّتي. فإنّها عُضْلَةُ العُقَدِ. ومِحَكُّ المُنْتَقَدِ. فقلّدوهُ في هذا الأمْرِ الزّعامَةَ. تقْليدَ الخوارِجِ أبا نَعامَةَ. فأقْبَلَ على الكهْلِ وقالَ: اعْلَمْ أني أُوالي. هذا الوالي. وأُرَقّحُ حالي. بالبَيانِ الحالي. وكُنْتُ أستَعينُ على تقْويمِ أوَدي. في بلَدي. بسَعَةِ ذاتِ يَدي. معَ قِلّةِ عدَدي. فلمّا ثَقُلَ حاذي. ونفِدَ رَذاذي. أمّمْتُهُ منْ أرْجائي. برَجائي. ودعوْتُهُ لإعادَةِ رُوائي وإرْوائي. فهَشّ للوِفادَةِ وراحَ. وغَدا بالإفادَةِ وراحَ. فلمّا استأذَنْتُهُ في المَراحِ. إلى المُراحِ. على كاهِلِ المِراحِ. قال: قدْ أزْمَعْتُ أنْ لا أزوّدَكَ بَتاتاً. ولا أجْمعَ لكَ شَتاتاً. أو تُنْشِئَ لي أمامَ ارتِحالِكَ. رِسالَةً تودِعُها شرْحَ حالِكَ. حُروفُ إحْدى كلِمتَيْها يعُمّها النَّقْطُ. وحُروفُ الأخْرى لمْ يُعْجَمْنَ قطّ. وقدِ استأنَيْتُ بَياني حَوْلاً. فَما أحارَ قوْلاً. ونَبَهْتُ فِكْري سَنَةً. فما ازْدادَ إلا سِنَةً. واستَعَنْتُ بقاطِبَةِ الكُتّابِ. فكلٌ منْهُمْ قطّبَ وتابَ. فإنْ كُنتَ صدَعْتَ عنْ وصْفِكَ باليَقينِ. فأتِ بآيَةٍ إنْ كُنتَ منَ الصّادِقين. فقال لهُ: لقَدِ استَسْعَيْتَ يَعْبوباً. واستَسْقَيْتَ أُسْكوباً. وأعطَيْتَ القوْسَ بارِيَها. أسْكَنْتَ الدّارَ ثانِيَها. ثمّ فكّرَ ريثَما اسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ:اسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ: الكرَمُ ثبّتَ اللهُ جيْشَ سُعودِكَ يَزينُ. واللّؤمُ غَضّ الدّهرُ جَفْنَ حَسودِكَ يَشينُ. والأرْوَعُ يُثيبُ. والمُعْوِرُ يَخيبُ. والحُلاحِلُ يُضيفُ. والماحِلُ يُخيفُ. والسّمْحُ يُغْذي. والمَحْكُ يُقذي. والعطاء ينجي والمطال يشجي، والدعاء يفي والمدح ينقي والحُرُّ يَجْزي. والإلْطاطُ يُخْزي. واطّراحُ ذي الحُرْمَةِ غَيٌ. ومَحْرَمَةُ بَني الآمالِ بغْيٌ. وما ضنّ إلا غَبينٌ. ولا غُبِنَ إلا ضَنينٌ. ولا خزَنَ إلا شَقيٌ. ولا قبَضَ راحَهُ تقيٌ. وما فتئ وعدُك يَفي. وآراؤكَ تَشْفي. وهِلالُكَ يُضي. وحِلْمُك يُغْضي. وآلاؤكَ تُغْني. وأعداؤكَ تُثْني. وحُسامُك يُفْني. وسؤدَدُكَ يُقْني. ومُواصِلُكَ يجْتَني. ومادِحُك يقْتَني. وسماحُكَ يُغيثُ. وسماؤكَ تَغيثُ. ودرُّكَ يَفيضُ. وردُّكَ يَغيضُ. ومؤمِّلُكَ شيْخٌ حَكاهُ فَيْءٌ. ولمْ يبْقَ لهُ شيءٌ. أمّكَ بظَنٍ حِرصُهُ يثِبُ. ومدَحَكَ بنُخَبٍ. مُهورُها تجِبُ. ومَرامُهُ يخِفُّ. وأواصِرُهُ تشِفُّ. وإطْراؤهُ يُجْتَذَبُ. وملامُهُ يُجتَنَبُ. وورَاءهُ ضَفَفٌ. مَسّهُمْ شظَفٌ. وحصّهُمْ جنَفٌ. وعمّهُمْ قشَفٌ. وهوَ في دمْعٍ يُجيبُ. وولَهٍ يُذيبُ. وهَمٍّ تَضيّفَ. وكمَدٍ نيّفَ. لمأمولٍ خيّبَ. وإهْمالٍ شيّبَ. وعدوٍّ نَيّبَ. وهُدُوٍّ تغيّبَ. ولمْ يزِغْ ودُّهُ فيغْضَبَ. ولا خَبُثَ عودُهُ فيُقْضَبَ. ولا نفَثَ صدْرُهُ فيُنْفَضَ. ولا نشَزَ وصْلُهُ فيُبْغَضَ. وما يقْتَضي كرَمُكَ نبْذَ حُرَمِهِ. فبيِّضْ أمَلَهُ بتَخْفيفِ ألَمِهِ. ينُثّ حمدَكَ بينَ عالَمِهِ. بقيتَ لإماطَةِ شجَبٍ. وإعْطاءِ نشَبٍ. ومُداواةِ شجَنٍ. ومُراعاةِ يفَنٍ. موصولاً بخَفْضٍ. وسُرورٍ غَضٍّ. ما غُشِيَ معْهَدُ غنيٍّ. أو خُشِيَ وهْمُ غبيٍّ. والسّلامُ. فلمّا فرَغَ منْ إمْلاءِ رِسالَتِهِ. وجلّى في هَيْجاء البَلاغَةِ عنْ بَسالَتِهِ. أرضَتْهُ الجماعَةُ فِعْلاً وقوْلاً. وأوْسَعَتْهُ حَفاوَةً وطَوْلاً. ثمّ سُئِلَ منْ أيّ الشّعوبِ نِجارُهُ. وفي أيّ الشِّعابِ وِجارُهُ؟ فقال:

 

 

غسّانُ أُسرَتيَ الصّـمـيمَـهْ *** وسُروجُ تُرْبَتي القَـديمَـهْ

 

فالبَيتُ مثلُ الـشّـمْـسِ إشْـ *** راقاً ومنـزِلَةً جـسـيمَـهْ

 

والرّبْعُ كالـفِـرْدَوْسِ مـطْ *** يَبَةً ومَـنْـزَهَةً وقـيمَـهْ

 

واهـاً لـعـيْشٍ كـانَ لـي *** فيهـا ولـذّآتٍ عَـمـيمَـهْ

 

أيّامَ أسْحَـبُ مُـطْـرَفـي *** في روضِها ماضي العَزيمَهْ

 

أخْتالُ فـي بُـردِ الـشّـبـا *** بِ وأجْتَلي النِّعَمَ الوَسيمَـهْ

 

لا أتّـقـي نُـوَبَ الـزّمـا *** نِ ولا حَوادِثَهُ المُـلـيمَـهْ

 

فلوَ انّ كـرْبـاً مُـتْـلِـفٌ *** لَتَلِفْتُ منْ كُرَبي المُقـيمَـهْ

 

أو يُفْتَدَى عـيْشٌ مـضـى *** لفدَتْهُ مُهجَتيَ الـكَـريمَـهْ

 

فالموْتُ خـيرٌ لـلـفـتـى *** منْ عيشِهِ عيْشَ البَهـيمَـهْ

 

تقْـتـادُهُ بُـرَةُ الـصَّـغـا *** رِ إلى العظيمَةِ والهضيمَـهْ

 

ويرَى السّباعَ تَـنـوشُـهـا *** أيْدي الضّباعِ المُستَضيمَـهْ

 

والـذّئبُ لــلأيّامِ لـــوْ *** لا شُؤمُها لمْ تنْبُ شـيمَـهْ

 

ولوِ استَقامَـتْ كـانـتِ الـ *** أحوالُ فيها مُسـتَـقـيمَـهْ

 

 

 

 

 

ثمّ إنّ خبَرَه نَما إلى الوالي. فمَلأ فاهُ باللآلي. وسامَهُ أن ينضَويَ إلى أحشائِهِ. ويَليَ ديوانَ إنْشائِهِ. فأحْسَبَهُ الحِباءُ. وظلَفَهُ عنِ الوِلايَةِ الإباءُ. قال الراوي: وكُنتُ عرَفْتُ عُودَ شجَرَتِه. قبلَ إيناعِ ثمرَتِهِ. وكِدْتُ أنبّهُ على عُلوّ قدْرِهِ. قبلَ استِنارَةِ بدْرِهِ. فأوْحى إليّ بإيماضِ جفْنِهِ. أن لا أجرِّدَ عضْبَهُ منْ جفْنِهِ. فلمّا خرَجَ بَطينَ الخُرْجِ. وفصَلَ فائِزاً بالفُلْجِ. شيّعْتُهُ قاضِياً حقّ الرّعايَةِ. ولاحِياً لهُ على رفْضِ الوِلايَةِ. فأعْرَضَ مُتَبَسّماً. وأنْشَدَ مترنّماً:

 

 

 

لَجَوْبُ البِلادِ معَ المَتْرَبَـهْ *** أحَبُّ إليّ منَ المرْتَـبَـهْ

 

لأنّ الوُلاةَ لـهُـمْ نَـبـوَةٌ *** ومعْتَبَةٌ يا لَها مَعْـتَـبَـهْ

 

ومافيهمِ مَنْ يرُبُّ الصّنيعَ *** ولا مَنْ يُشيِّدُ ما رتّـبَـهْ

 

فلا يخدَعنْكَ لَموعُ السّرابِ *** ولا تأتِ أمْراً إذا ما اشْتبَهْ

 

فكَمْ حالِمٍ سرّهُ حُـلْـمُـهُ *** وأدرَكَهُ الرّوْعُ لمّا انْتبَـهْ

 

===================

مقامات الحريري/المقامة المروية

< مقامات الحريري

 

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

 

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حُبّبَ إليّ مُذْ سعَتْ قدَمي. ونفَثَ قلَمي. أنْ أتّخِذَ الأدَبَ شِرْعَةً. والاقتِباسَ منهُ نُجْعَةً. فكُنتُ أنَقّبُ عنْ أخبارِهِ. وخزَنَةِ أسْرارِهِ. فإذا ألْفَيْتُ منهُمْ بُغيَةَ الملتَمِسِ. وجُذْوَةَ المُقتَبِسِ. شدَدْتُ يَدي بغَرْزِهِ. واستَنزَلْتُ منهُ زَكاةَ كنزِهِ. على أنّي لمْ ألْقَ كالسَّروجيّ في غَزارَةِ السُّحْبِ. ووضْعِ الهِناء مَواضِعَ النُّقْبِ. إلا أنهُ كانَ أسْيَرَ منَ المثَلِ. وأسرَعَ منَ القمَرِ في النُّقَلِ. وكنتُ لهَوى مُلاقاتِهِ. واستِحْسانِ مَقاماتِهِ. أرْغَبُ في الاغتِرابِ. وأستَعْذِبُ السّفَرَ الذي هوَ قِطعَةٌ من العَذابِ. فلمّا تطوّحْتُ إلى مرْوَ. ولا غَرْوَ. بشّرَني بمَلقاهُ زجْرُ الطّيرِ. والفألُ الذي هوَ بَريدُ الخيرِ. فلمْ أزَلْ أنشُدُهُ في المحافِلِ. وعندَ تلَقّي القَوافِلِ. فلا أجِدُ عنْهُ مُخبِراً. ولا أرى لهُ أثَراً ولا عِثْيَراً. حتى غلَبَ اليأسُ الطّمَعَ. وانْزَوى التّأميلُ وانْقمَعَ. فإني لَذاتَ يومٍ بحضْرَةِ والي مرْوَ. وكانَ ممّنْ جمَعَ الفضْلَ والسَّرْوَ. إذ طلَعَ أبو زيْدٍ في خلَقٍ مِمْلاقٍ. وخُلُقٍ مَلاّقٍ. فحَيّا تحيّةَ المُحْتاجِ. إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ. ثمّ قالَ لهُ: اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ. وكُفيتَ الهَمّ. أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ. أُعْلِقَتْ بهِ الأمالُ. ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ. رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ. وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ. وواتاهُ القدَرُ. أدّى زكاةَ النِّعَمِ. كما يؤدّي زكاةَ النَّعَمِ. والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ. ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ. وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ. وعِمادَ عصْرِكَ. تُزْجى الرّكائِبُ إلى حرَمِكَ. وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ. وتُنزَلُ المَطالِبُ بساحَتِكَ. وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِكَ. وكان فضلُ اللهِ عليْكَ عظيماً. وإحْسانُهُ لديْكَ عَميماً. ثمّ إني شيخٌ ترِبَ بعْدَ الإتْرابِ. وعدِمَ الإعْشابَ حينَ شابَ. قصَدْتُكَ منْ محَلّةٍ نازِحَةٍ. وحالَةٍ رازِحَةٍ. آمُلُ منْ بحرِكَ دُفعَةً. ومنْ جاهِكَ رِفعَةً. والتّأميلُ أفضَلُ وسائِلِ السائِلِ. ونائِلِ النّائِلِ. فأوْجِبْ لي ما يجِبُ عليْكَ. وأحسِنْ كما أحْسَنَ اللهُ إليْكَ. وإيّاكَ أن تلْويَ عِذارَكَ. عمَّنِ ازْدَراكَ. وأمَّ دارَكَ. أو تقبِضَ راحَكَ. عمّنِ امْتاحَكَ. وامْتارَ سَماحَكَ. فوَاللهِ ما مجَدَ مَنْ جمَدَ. ولا رشَدَ منْ حشَدَ. بلِ اللّبيبُ مَنْ إذا وجَدَ جادَ. وإنْ بَدأ بعائِدَةٍ عادَ. والكَريمُ منْ إذا استُوهِبَ الذّهَبَ. لمْ يهَبْ أنْ يهَبَ. ثمّ أمْسَكَ يرْقُبُ أُكُلَ غرْسِهِ. ويرْصُدُ مطيبَةَ نفْسِهِ. وأحَبَّ الوالي أنْ يعْلَمَ هلْ نُطفَتُهُ ثمَدٌ. أم لقَريحَتِهِ مدَدٌ. فأطْرَقَ يرَوّي في استيراء زَنْدِهِ. واستِشْفافِ فِرِنْدِهِ. والتَبَسَ على أبي زيدٍ سِرُّ صَمْتَتِهِ. وإرْجاءِ صِلَتِهِ. فتوَغّرَ غضَباً. وأنْشَدَ مُقتَضِباً:

لا تحقِرَنّ أبيْتَ الـلّـعـنَ ذا أدبٍ *** لأنْ بَدا خلَقَ السّرْبـالِ سُـروتـا

 

ولا تُضِعْ لأخي التّأميلِ حُرمـتَـهُ *** أكانَ ذا لسَنٍ أم كـان سِـكّـيتـا

 

وانفَحْ بعُرْفِكَ منْ وافاكَ مختَبطـاً *** وانعَشْ بغَوْثِكَ من ألفيتَ مَنكوتـا

 

فخَيرُ مالِ الفتى مـالٌ أشـادَ لـهُ *** ذِكْراً تناقَلَهُ الرُكبـانُ أو صِـيتـا

 

وما على المُشتَري حمْداً بمَوْهِـبَةٍ *** غبنٌ ولوْ كان ما أعْطاهُ ياقـوتـا

 

لوْلا المُروءةُ ضاقَ العُذْرُ عن فَطِنٍ *** إذا اشْرأبّ إلى ما جاوَزَ القـوتـا

 

لكنّهُ لابْتِناء المـجْـدِ جـدّ ومِـنْ *** حُبّ السّماحِ ثنَى نحوَ العُلى لِيتـا

 

وما تنشّقَ نشْرَ الشّكْـرِ ذو كـرَمٍ *** إلا وأزْرى بنَشرِ المِسكِ مَفتـوتـا

 

والحمدُ والبخلُ لم يُقضَ اجتماعهما *** حتى لقَدْ خيلَ ذا ضَبّاً وذا حـوتَـا

 

والسّمحُ في الناسِ محبوبٌ خلائِقُهُ *** والجامدُ الكفّ ما ينْفَكّ ممْقـوتـا

 

وللشّحيحِ على أمْـوالِـهِ عـلَـلٌ *** يوسِعْنَهُ أبَـداً ذمّـاً وتـبْـكـيتـا

 

فجُدْ بما جمَعتْ كفّاكَ من نشَـبٍ *** حتى يُرَى مُجْتَدي جَدواكَ مَبهوتا

 

وخُذْ نصيبَكَ منـهُ قـبـلَ رائِعَةٍ *** من الزّمانِ تُريكَ العودَ منحوتـا

 

فالدّهْرُ أنكَدُ من أن تستَمـرّ بـهِ *** حالٌ تكرّهْتَ تلكَ الحالَ أم شيتا

 

فقال لهُ الوالي: تاللهِ لقدْ أحسَنْتَ. فأيُّ ولَدِ الرّجُلِ أنتَ؟ فنظَرَ إليْهِ عنْ عُرْضٍ. وأنشَدَ وهُوَ مُغْضٍ:

لا تسْألِ المرْءَ مَنْ أبوهُ ورُزْ *** خلالَهُ ثمّ صِلْهُ أو فاصْـرِمِ

 

فما يَشينُ السُّلافَ حينَ حَلا *** مَذاقُها كونُها ابنَةَ الحِصْرِمِ

 

قال: فقرّبَهُ الوالي لبَيانِهِ الفاتِنِ. حتى أحلّهُ مقْعَدَ الخاتِنِ. ثمّ فرَضَ له من سُيوبِ نيْلِهِ. ما آذنَ بطولِ ذَيلِهِ. وقِصَرِ لَيلِهِ. فنهَضَ عنْهُ برُدْنٍ مَلآنَ. وقلْبٍ جذْلانَ. وتبِعْتُهُ حاذِياً حَذْوَهُ. وقافِياً خَطْوَهُ. حتى إذا خرَجَ منْ بابِهِ. وفصَلَ عنْ غابِهِ. قُلتُ لهُ: هُنّئْتَ بِما أوتيتَ. ومُلّيتَ بِما أُوليتَ! فأسْفَرَ وجهُهُ وتَلالا. ووالى شُكْراً للهِ تَعالى. ثمّ خطَرَ اخْتِيالاً. وأنشدَ ارتِجالاً:


منْ يكُنْ نالَ بالحَماقَةِ حَظّـاً *** أو سَما قدرُهُ لِطيبِ الأصولِ

فبِفَضْلي انتَفَعْتُ لا بفُضولي *** وبقَوْلي ارتفَعْتُ لا بقُيولـي

 

ثم قال: تَعْساً لمَنْ جدَبَ الأدَبَ. وطوبى لمَنْ جدّ فيهِ ودأبَ! ثمّ ودّعَني وذهَبَ. وأوْدَعَني اللَّهَبَ.

=======================

مقامات الحريري/المقامة المعرية

 مقامات الحريري

أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. إلى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً إلى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا.فابْتَدَر الغُلامُ وقال:

أعارني إبرَةً لأرفـوَ أطْـمـا *** راً عَفاها البِلـى وسـوّدَهـا

 

فانخرَمَتْ في يَدي على خطَـإٍ *** منّيَ لمّا جذَبْتُ مِـقـوَدَهـا

 

فلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَـنـي *** بإرْشِـهـا إذْ رأى تـأوُّدَهـا

 

بلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِـلُـهـا *** أو قيمَةً بعْدَ أن تـجـوّدَهـا

 

واعْتاقَ ميلي رَهْناً لـدَيْهِ ونـا *** هيكَ بـه سُـبّةً تَـزوّدَهــا

 

فالعينُ مَرْهَى لرَهْـنِـه ويدي *** تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَهـا

 

فاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي *** وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعـوّدَهـا

فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال:

أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ *** ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنى

 

لوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَنـي *** مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَـنـا

 

ولا تصدّيتُ أبتَـغـي بـدَلاً *** منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَـنـا

 

لكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني *** بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنـا

 

وخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالـتِـهِ *** ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنى

 

قد عدَلَ الدهْرُ بينَنـا فـأنـا *** نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنـا

 

لا هُوَ يسْطيعُ فـكّ مِـروَدِهِ *** لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَـنـا

 

ولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي *** فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنـى

 

فهَذِهِ قصّتـي وقـصّـتُـه *** فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنـا ولَـنـا

فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ. فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ إلى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما؟ فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال:

أنا السَّروجـيُّ وهـذا ولَـدي *** والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِ

 

ومـا تـعــدّتْ يدُهُ ولا يَدي *** في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِـرْوَدِ

 

وإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَـدي *** مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْـتَـدي

 

كلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَـوْرِدِ *** وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ الـيَدِ

 

بكُلّ فنٍ وبـكـلّ مـقْـصَـدِ *** بالجِدّ إنْ أجْـدَى وإلاّ بـالـدَّدِ

 

لنَجلِبَ الرّشْحَ إلى الحظّ الصّدي *** ونُنْفِدَ العُمْرَ بـعـيشٍ أنْـكَـدِ

 

والموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَـدِ *** إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِ

فقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ

=================

مقامات الحريري/المقامة المغربية

 مقامات الحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: شهِدْتُ صَلاةَ المغْرِبِ. في بعضِ مساجِدِ المغرِبِ. فلمّا أدّيتُها بفضْلِها. وشفَعْتُها بنَفْلِها. أخذَ طرْفي رُفقَةً قدِ انتَبَذوا ناحيةً. وامْتازوا صَفوةً صافيَةً. وهُمْ يتعاطَونَ كأسَ المُنافَثَةِ. ويقتَدِحونَ زِنادَ المُباحثَةِ. فرغِبْتُ في مُحادثتِهِمْ لكلِمَةٍ تُستَفادُ. أو أدبٍ يُستَزادُ. فسعَيْتُ إليهِمْ. سعْيَ المتطفّلِ عليْهِمْ. وقلتُ لهُمْ: أتقْبَلون نَزيلاً يطلُبُ جنى الأسْمارِ. لا جنّةَ الثّمارِ. ويبْغي مُلَحَ الحِوارِ. لا مَلْحاءَ الحُرارِ. فحَلّوا ليَ الحِبى. وقالوا: مرْحباً مرحَباً. فلمْ أجلِسْ إلا لمحَةَ بارِقٍ خاطِفٍ. أو نغبَةَ طائِرٍ خائِفٍ. حتى غَشيَنا جوابٌ. على عاتِقِه جِرابٌ. فحيّانا بالكلِمتَينِ. وحيّا المسجدَ بالتّسليمتَينِ. ثمّ قال: يا أولي الألبابِ. والفضلِ اللُبابِ. أما تعلَمونَ أنّ أنْفَسَ القُرُباتِ. تنْفيسُ الكُرُباتِ؟ وأمْتَنَ أسبابِ النّجاةِ. مؤاساةُ ذوي الحاجاتِ؟ وإني ومَنْ أحلّني ساحتَكُمْ. وأتاحَ ليَ استِماحتَكُمْ. لشَريدُ محلٍّ قاصٍ. وبَريدُ صِبيَةٍ خِماصٍ. فهلْ في الجَماعةِ. منْ يفثأُ حُمَيّا المَجاعَةِ؟ فقالوا له: يا هذا إنّك حضرْتَ بعْدَ العِشاء. ولمْ يبْقَ إلا فَضلاتُ العَشاء. فإنْ كنتَ بها قَنوعاً. فما تجِدُ فينا مَنوعاً. فقال: إنّ أخا الشّدائِدِ. ليَقْنَعُ بلَفَظاتِ المَوائِدِ. ونُفاضاتِ المَزاوِدِ. فأمرَ كُلٌ منهُمْ عبْدَهُ. أنْ يزوّدَهُ ما عِندَهُ. فأعجَبَهُ الصُنْعُ وشكرَ عليْهِ. وجلَسَ يرْقُبُ ما يُحْمَلُ إليْهِ. وثُبْنا نحنُ إلى استِثارَةِ مُلَحِ الأدَبِ وعُيونِه. واستِنْباطِ مَعينِهِ من عُيونِهِ. إلى أنْ جُلْنا فيما لا يَستَحيلُ بالانعِكاسِ. كقولكَ ساكِبُ كاسٍ. فتَداعَينا إلى أنْ نستَنتِجَ لهُ الأفكارَ. ونفتَرِعَ منهُ الأبْكارَ. على أنْ ينظِمَ البادِئُ ثلاثَ جُماناتٍ في عِقدِهِ. ثمّ تتدرّج الزّياداتُ منْ بعدِهِ. فيرَبّعُ ذو ميمَنَتِهِ في نظْمِهِ. ويُسبِّعُ صاحِبُ ميسرَتِهِ على رغْمِهِ. قال الرّاوي: وكنّا قدِ انتظَمْنا عِدّةَ أصابِعِ الكفّ. وتألّفْنا أُلفَةَ أصْحابِ الكهْفِ. فابْتَدَرَ لعِظَمِ محْنَتي. صاحبُ ميمَنَتي. وقال: لُمْ أخاً ملّ. وقال مُيامِنُهُ: كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ. وقال الذي يليهِ: منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ. وقال الآخرُ: سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ. وأفضَتِ النّوبَةُ إليّ. وقد تعيّنَ نظْمُ السّمْطِ السُباعيّ عليّ. فلمْ يزَلْ فِكري يصوغُ ويكْسِرُ. ويُثْري ويُعسِرُ. وفي ضِمْنِ ذلِك أستَطْعِمُ. فلا أجدُ منْ يُطعِمُ. إلى أن ركَدَ النّسيمُ. وحصْحَصَ التّسليمُ. فقلتُ لأصْحابي: لو حضَرَ السَّروجيّ هذا المَقامَ. لشَفى الدّاءَ العُقامَ. فقالوا: لو نزَلَتْ هذهِ بإياسٍ. لأمْسَكَ على ياسٍ. وجعلْنا نُفيضُ في استِصْعابِها. واستِغْلاقِ بابِها. وذلِك الزّوْرُ المُعتَري. يلحَظُنا لحْظَ المُزدَري. ويؤلّفُ الدُرَرَ ونحنُ لا ندْري. فلمّا عثَرَ على افتِضاحِنا. ونُضوبِ ضحْضاحِنا. قال: يا قومُ إنّ منَ العَناء العظيمِ. استيلادَ العَقيمِ. والاستِشْفاءَ بالسّقيمِ. وفوْقَ كلّ ذي عِلمٍ عليمٌ. ثمّ أقبَل عليّ وقال: سأنوبُ منابَكَ. وأكفيكَ ما نابَكَ. فإنْ شِئْتَ أن تنثُرَ. ولا تعثُرَ. فقُلْ مُخاطِباً لمَنْ ذمّ البُخْلَ. وأكثَرَ العذْلَ: لُذْ بكلّ مؤمّلٍ إذا لمّ وملَك بذَلَ. وإنْ أحببْتَ أن تنظِمَ. فقُلْ للذي تُعظِمُ:

أُسْ أرْمَلاً إذا عَـرا *** وارْعَ إذا المرءُ أسا

 

أسْنِدْ أخـا نَـبـاهَةٍ *** أبِنْ إخـاءً دَنـسـا

 

أُسْلُ جَنابَ غـاشِـمٍ *** مُشاغِبٍ إنْ جلَسـا

 

أُسْرُ إذا هبّ مِـراً *** وارْمِ بهِ إذا رَسـا

 

أُسْكُنْ تقَوَّ فعَـسـى *** يُسعِفُ وقْتٌ نكَسـا

 

قال: فلمّا سحرَنا بآياتِه. وحسرَنا ببُعْدِ غاياتِه. مدحْناهُ حتى استَعْفى. ومنحْناهُ إلى أنِ استَكْفى. ثمّ شمّرَ ثيابَهُ. وازدَفَرَ جِرابَهُ. ونهضَ يُنشِدُ:

للـهِ دَرُّ عِـصـابَةٍ *** صُدُقِ المَقالِ مَقاوِلا

 

فاقوا الأنامَ فضـائِلاً *** مأثورَةً وفواضِـلا

 

حاورْتُهم فوجَدتُ سحْـ *** باناً لديْهِـمْ بـاقِـلا

 

وحللْتُ فيهِمْ سـائِلاً *** فلَقيتُ جوداً سـائِلا

 

أقسَمْتُ لوْ كان الكِرا *** مُ حياً لكانوا وابِـلا

 

ثم خَطا قِيدَ رُمحَينِ. وعادَ مُستَعيذاً من الحَينِ. وقال: يا عِزّ مَنْ عدِمَ الآلَ. وكَنْزَ منْ سُلِبَ المالَ. إن الغاسِقَ قدْ وقَبَ. ووجْهَ المحجّةِ قدِ انتقَبَ. وبيْني وبينَ كِنّي ليلٌ دامِسٌ. وطريقٌ طامِسٌ. فهلْ منْ مِصباحٍ يؤْمِنُني العِثارَ. ويُبيّنُ ليَ الآثارَ؟ قال: فلمّا جِيء بالمُلتَمَسِ. وجلّى الوجوهَ ضوءُ القبَسِ. رأيتُ صاحِبَ صيْدِنا. هوَ أبو زيدِنا. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي أشَرْتُ إلى أنهُ إذا نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. فأتلَعوا نحوَه الأعْناق. وأحدَقوا بهِ الأحْداقَ. وسألوهُ أنْ يُسامِرَهُمْ ليلَتَهُ. على أن يجْبِروا عَيلَتهُ. فقال: حُبّاً لِما أحبَبْتُمْ. ورُحْباً بكُمْ إذا رحّبْتُمْ. غيرَ أني قصدتُكُمْ وأطْفالي يتضوّرونَ منَ الجوعِ. ويدْعونَ لي بوشْكِ الرّجوعِ. وإنِ استَراثوني خامرَهُم الطّيشُ. ولمْ يصْفُ لهمُ العيشُ. فدَعوني لأذْهبَ فأسُدَّ مَخْمَصَتَهُمْ. وأُسيغَ غُصّتَهُمْ. ثمّ أنقَلِبَ إليكُمْ على الأثَرِ. متأهّباً للسّمَرِ. إلى السّحَرِ. فقُلْنا لأحدِ الغِلْمَةِ: اتّبِعْهُ إلى فئَتِه. ليكونَ أسرعَ لفَيْئَتِهِ. فانْطلَقَ معَهُ مضطَبِناً جِرابَه. ومُحَثْحِثاً إيابَه. فأبْطأ بُطْأَ جاوزَ حدّهُ. ثمّ عادَ الغُلامُ وحدَهُ. فقُلْنا له: ما عندَكَ من الحديث. عنِ الخبيثِ؟ فقال: أخذَ بي في طرُقٍ مُتعِبَةٍ. وسُبُلٍ متشعّبَةٍ. حتى أفضَيْنا إلى دُوَيْرَةٍ خرِبَةٍ. فقال: هاهُنا مُناخي. ووكْرُ أفْراخي. ثمّ استَفْتَحَ بابَهُ. واختلَجَ مني جِرابَهُ. وقال: لَعمْري لقدْ خفّفْتَ عني. واستوْجَبْتَ الحُسْنى مني. فهاكَ نصيحةً هيَ منْ نفائِسِ النّصائحِ. ومغارِسِ المصالِحِ. وأنشدَ

إذا ما حوَيْتَ جنـى نـخـلَةٍ *** فلا تقْرُبَنْهـا إلـى قـابِـلِ

 

وإمّا سقَطْتَ عـلـى بـيْدَرٍ *** فحوْصِلْ من السُنبلِ الحاصِلِ

 

ولا تلبَثَنّ إذا مـا لـقَـطْـتَ *** فتَنشَبَ في كفّةِ الـحـابِـلِ

 

ولا توغِلَنّ إذا ما سـبـحْـتَ *** فإنّ السّلامةَ في السـاحِـلِ

 

وخاطبْ بهاتِ وجاوِبْ بسوْفَ *** وبِعْ آجِلاً منكَ بالـعـاجـلِ

 

ولا تُكثِرَنّ علـى صـاحـبٍ *** فما ملّ قطُّ سوى الواصِـلِ

 

ثم قال: اخزُنْها في تأمورِكَ. واقْتَدِ به في أمورِكَ. وبادِرْ إلى صحْبِكَ. في كِلاءةِ ربّكَ. فإذا بلَغْتَهُمْ فأبْلِغْهُمْ تحيّتي. واتْلُ عليْهِمْ وصيّتي. وقُلْ لهُمْ عنّي: إنّ السهَرَ في الخُرافاتِ. لَمِنْ أعظمِ الآفاتِ. ولستُ أُلْغي احتِراسي. ولا أجلُبُ الهوَسَ إلى راسي. قال الراوي: فلمّا وقفْنا على فحْوى شِعرِهِ. واطّلَعْنا على نُكْرِهِ ومكرِهِ. تلاوَمْنا على ترْكِهِ. والاغتِرارِ بإفْكِهِ. ثمّ تفرّقْنا بوجوهٍ باسِرَةٍ. وصفقَةٍ خاسِرةٍ.

===============

مقامات الحريري/المقامة المكية

  مقامات الحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نهضْتُ من مدينةِ السّلامِ. لحِجّةِ الإسلامِ. فلمّا قضيْتُ بعَونِ اللهِ التّفَثَ. واستبَحْتُ الطّيبَ والرَّفَثَ. صادَفَ موسِمُ الخيْفِ. معْمَعانَ الصّيفِ. فاستَظْهَرْتُ للضّرورةِ. بِما يَقي حرَّ الظّهيرةِ. فبَينَما أنا تحتَ طِرافٍ. مع رُفقَةٍ ظِرافٍ. وقدْ حَمِيَ وَطيسُ الحصْباء. وأعْشى الهَجيرُ عينَ الحِرْباء. إذ هجَمَ عليْنا شيخٌ مُتَسَعْسِعٌ. يتْلوهُ فتًى متَرَعرِعٌ. فسلّمَ الشيخُ تسْليمَ أديبٍ أريبٍ. وحاوَرَ مُحاوَرَةَ قَريبٍ لا غَريبٍ. فأُعْجِبْنا بما نثَرَ منْ سِمْطِهِ. وعِجبْنا منِ انبِساطِه قبلَ بسْطِهِ. وقُلْنا لهُ: ما أنتَ. وكيفَ ولَجْتَ وما استأذَنْتَ؟ فقال: أما أنا فعَافٍ. وطالِبُ إسْعافٍ. وسِرُّ ضُرّي غيرُ خافٍ. والنّظَرُ إليّ شفيعٌ لي كافٍ. وأمّا الانْسِيابُ. الذي علِقَ بهِ الارتِيابُ. فَما هوَ بعُجابٍ. إذ ما علَى الكُرَماء منْ حِجابٍ. فسألْناهُ: أنّى اهْتَدَى إليْنا. وبِمَ استَدَلّ علَيْنا؟ فقال: إنّ للكرَمِ نشْراً تَنُمّ بهِ نفَحاتُهُ. وتُرْشِدُ إلى روضِهِ فوْحاتُهُ. فاستَدْلَلْتُ بتأرّجِ عَرْفِكُمْ. على تبلّجِ عُرفِكُم! وبشّرَني تضوُّعُ رندِكُمْ. بحُسْنِ المُنقَلَبِ منْ عِندِكُم! فاستخْبَرْناهُ حينَئِذٍ عنْ لُبانَتِهِ. لنتَكفّلَ بإعانتِهِ. فقال: إنّ لي مأرَباً. ولفَتايَ مَطلَباً. فقُلْنا لهُ: كِلا المَرامَينِ سيُقْضى. وكِلاكُما سوفَ يرْضى. ولكِنِ الكُبرَ الكُبْرَ. فقال: أجَلْ ومنْ دَحا السّبْعَ الغُبْرَ. ثمّ وثبَ للمَقالِ. كالمُنشَطِ منَ العِقالِ. وأنشَدَ:

إني امرُؤٌ أُبدِعَ بي *** بعدَ الوَجى والتّعَبِ

 

وشُقّتي شـاسِـعةٌ *** يقْصُرُ عنها خَبَبي

 

وما معي خـرْدَلَةٌ *** مطبوعةٌ منْ ذهَبِ

 

فحيلَتـي مُـنـسَـدّةٌ *** وحَيرَتي تلعَـبُ بـي

 

إنِ ارتَحَلْـتُ راجِـلاً *** خِفْتُ دَواعي العطَبِ

 

وإنْ تخلّفْتُ عنِ الرُفْ *** قَةِ ضاقَ مذْهَـبـي

 

فزَفْرَتي في صُـعُـدٍ *** وعَبْرتي في صبَـبِ

 

وأنتُمُ مُنتـجَـعُ الـرّا *** جي ومرْمَى الطّلَـبِ

 

لُهـاكُـمُ مـنـهَـلّةٌ *** ولا انْهِلالَ السُحُـبِ

 

وجارُكُمْ فـي حـرَمٍ *** ووَفْرُكُمْ في حـرَبِ

 

ما لاذَ مُرْتـاعٌ بـكُـمْ *** فخافَ نابَ الـنُـوَبِ

 

ولا اسـتَـدَرّ آمِــلٌ *** حِباءكُمْ فما حُـبـي فانعَطِفوا في قِصّتـي *** وأحسِنوا مُنقـلَـبـي

 

فلوْ بلوْتُمْ عـيشَـتـي *** في مطْعمي ومَشرَبي

 

لساءكُمْ ضُرّي الـذي *** أسلَمَني لـلـكُـرَبِ

 

ولوْ خبَرْتُمْ حسَـبـي *** ونسَبي ومـذْهَـبـي

 

وما حوَتْ معرِفَـتـي *** منَ العُلومِ الُّـخَـبِ

 

لما اعتَرَتْكُمْ شُـبـهَةٌ *** في أنّ دائي أدَبــي

 

فلَيْتَ أنّـي لـمْ أكُـنْ *** أُرضِعْتُ ثَدْيَ الأدَبِ

 

فقد دَهانـي شُـؤمُـه *** وعَقّنـي فـيهِ أبـي

 

فقُلْنا له: أمّا أنتَ فقدْ صرّحَتْ أبياتُكَ بفاقَتِك. وعطَبِ ناقَتِكَ. وسنُمْطيكَ ما يوصّلُكَ إلى بلدِكَ. فما مأرَبَةُ ولَدِكَ؟ فقال له: قُمْ يا بني كما قام أبوكَ. وفُهْ بما في نفسِك لا فُضّ فوكَ. فنهضَ نُهوضَ البطَلِ للبِرازِ. وأصْلَتَ لِساناً كالعضْبِ الجُرازِ. وأنشأ يقول:

يا سادَةً في المَعالـي *** لهُمْ مبـانٍ مَـشـيدَهْ

 

ومَنْ إذا نابَ خطْـبٌ *** قاموا بدَفْعِ المكـيدَهْ

 

ومن يهونُ علـيهِـمْ *** بذْلُ الكُنوزِ العَتـيدَهْ

 

أريدُ منـكُـمْ شِـواءً *** وجرْدَقاً وعـصـيدَهْ

 

فإنْ غَـلا فَـرُقـاقٌ *** بهِ تُوارَى الشّـهـيدَهْ

 

أو لمْ يكُـنْ ذا ولا ذَا *** فشُبْعَةٌ مـنْ ثَـريدَهْ

 

فإنْ تـعـذّرْنَ طُـرّاً *** فعـجْـوَةٌ ونَـهـيدَهْ

 

فأحْضِروا ما تسنّـى *** ولوْ شَظًى منْ قَديدَهْ

 

وروِّجوهُ فنَـفْـسـي *** لِمـا يروجُ مُـريدَهْ

 

والزّادُ لا بُـدّ مـنْـهُ *** لرِحْلَةٍ لـي بَـعـيدَهْ

 

وأنتُـمُ خـيْرُ رهْـطٍ *** تُدعَوْنَ عند الشّـديدهْ

 

أيدِيكُـمُ كـــلَّ يومٍ *** لَهـا أيادٍ جَـــديدَهْ

 

وراحُكُـمْ واصِـلاتٌ *** شمْلَ الصِّلاتِ المُفيدَهْ

 

وبُغْيَتي في مَطـاوي *** ما تَرفِـدونَ زهـيدَهْ

 

وفيّ أجْرٌ وعُقْـبَـى *** تنْفيسِ كَرْبي حَمـيدَهْ

 

ولي نـتـائِجُ فِـكـرٍ *** يفضَحْنَ كُلّ قَصـيدَهْ

 

قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا رأيْنا الشّبْلَ يُشبِهُ الأسَدَ. أرحَلْنا الوالِدَ وزوّدْنا الولَدَ. فقابَلا الصُّنْعَ بشُكْرٍ نشَرَ أرديَتَهُ. وأدّيا بِه ديَتَهُ. ولمّا عزَما على الانْطِلاقِ. وعَقَدا للرّحلَةِ حُبُكَ النّطاقِ. قُلتُ للشّيخِ: هلْ ضاهَتْ عِدَتُنا عِدَةَ عُرْقوبٍ. أو هلْ بقيَتْ حاجةٌ في نفْسِ يعْقوبَ؟ فقال: حاشَ للهِ وكَلاّ. بل جَلّ مَعروفُكُمْ وجَلّى. فقُلتُ لهُ: فَدِنّا كما دِنّاكَ. وأفِدْنا كما أفَدْناكَ. أينَ الدّوَيْرَةُ. فقدْ ملَكَتْنا فيكَ الحَيرَةُ؟ فتنفّسَ تنفُّسَ منِ ادّكَرَ أوطانَهُ. وأنشدَ والشّهيقُ يلَعثِمُ لسانَه:

 

 

سَروجُ داري ولكِـنْ *** كيفَ السّبيلُ إلَـيْهـا

 

وقدْ أنـاخَ الأعـادي *** بها وأخْنَوْا علَـيْهـا

 

فوالّتي سِرْتُ أبْغـي *** حَطّ الذُنوبِ لـدَيْهـا

 

ما راقَ طرْفيَ شيءٌ *** مُذْ غِبتُ عنْ طرَفَيْها

 

ثمّ اغرَوْرَقَتْ عيناهُ بالدّموعِ. وآذَنَتْ مَدامِعُهُ بالهُموعِ. فكَرِهَ أن يستَوكِفَها. ولم يملِكْ أن يكَفْكِفَها. فقطَعَ إنْشادَهُ المُستَحْلى. وأوجَزَ في الوَداعِ وولّى.

=======================

مقامات الحريري/المقامة الملطية

 مقامات الحريري

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أنَخْتُ بمَلْطِيّةَ مطيّةَ البَينِ. وحَقيبَتي ملأى منَ العينِ. فجعَلْتُ هِجّيرايَ. مُذْ ألقَيْتُ بها عصايَ. أن أتورّدَ موارِدَ المرَحِ. وأتصيّدَ شوارِدَ المُلَحِ. فلمْ يَفُتْني بها منظَرٌ ولا مسمَعٌ. ولا خَلا مني ملعَبٌ ولا مرتَعٌ. حتى إذا لمْ يبْقَ لي فيها مأرَبٌ. ولا في الثّواء بها مَرْغَبٌ. عمَدْتُ لإنْفاقِ الذّهبِ. في ابتِياعِ الأُهَبِ. فلمّا أكمَلْتُ الإعْدادَ. وتهيّأ الظّعْنُ منها أو كادَ. رأيتُ تِسعَةَ رهْطٍ قد سبأوا قهوَةً. وارتَبأوا ربْوَةً. ودماثَتُهُمْ قيْدُ الألحاظِ. وفُكاهَتُهُمْ حُلوَةُ الألْفاظِ. فنحَوْتُهُمْ طلَباً لمُنادَمتِهِمْ. لا لمُدامَتِهِمْ. وشَعَفاً بمُمازَجَتِهِمْ لا بزُجاجَتِهمْ. فلمّا انتظَمْتُ عاشِرَهُمْ. وأضحَيْتُ مُعاشِرَهمْ. ألفَيتُهُمْ أبناءَ عَلاّتٍ. وقَذائِفَ فلَواتٍ. إلا أنّ لُحْمَةَ الأدَبِ. قد ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ النّسَبِ. وساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ. حتى لاحوا مثلَ كواكِبِ الجوْزاءِ. وبدَوْا كالجُملَةِ المُتناسِبَةِ الأجْزاءِ. فأبْهَجَني الاهتِداءُ إليْهِمْ. وأحمَدْتُ الطّالِعَ الذي أطلعَني عليْهِمْ. وطفِقْتُ أُفيضُ بقِدْحي معَ قِداحِهِمْ. وأسْتَشْفي برِياحِهِمْ لا بِراحِهِمْ. حتى أدّتْنا شُجونُ المُفاوضَةِ. إلى التّحاجي بالمُقايَضَةِ. كقوْلِكَ إذا عنَيْتَ بهِ الكَراماتِ. ما مثلُ النّوْمُ فاتَ. فأنْشأنا نجْلو السُهَى والقمرَ. ونجْني الشّوْكَ والثّمَرَ. وبيْنا نحنُ ننْشُرُ القَشيبَ والرّثَّ. وننْشُلُ السّمينَ والغَثَّ. وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ. وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ. فمثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ. ويلتَقِطُ ما ننْثُرُ. إلى أن نُفِضَتِ الأكياسُ. وحصْحَصَ الياسُ. فلمّا رأى إجْبالَ القَرائِحِ. وإكْداءَ الماتِحِ والمائِحِ. جمَعَ أذيالَهُ. وولاّنا قَذالَهُ. وقال: ما كُلّ سوْداء تمْرَةٌ. ولا كلّ صهْباء خمرَةٌ. فاعْتَلَقْنا بهِ اعتِلاقَ الحِرْباء بالأعْوادِ. وضربْنا دونَ وِجْهَتِهِ بالأسْدادِ. وقلْنا لهُ: إن دَواء الشّقّ أن يُحاصَ. وإلا فالقِصاصَ القِصاصَ. فلا تطمَعْ في أن تجْرَحَ وتطْرَحَ. وتُنهِرَ الفَتْقَ وتسْرَحَ! فلوَى عِنانَهُ راجِعاً. ثم جثَمَ بمَكانِهِ راصِعاً. وقال: أمّا إذا استَثَرْتُموني بالبَحْثِ. فلأحْكُمُ حُكمَ سُلَيْمانَ في الحرْثِ. اعْلَموا يا ذَوي الشّمائِلِ الأدبِيّةِ. والشَّمولِ الذّهبيّةِ. أنّ وضْعَ الأُحجِيّةِ. لامتِحانِ الألمَعيّةِ. واستِخْراجِ الخَبيّةِ الخفيّةِ. وشرْطُها أنْ تكونَ ذاتَ مماثلَةٍ حَقيقيّةٍ. وألْفاظٍ معْنَويّةٍ. ولَطيفَةٍ أدَبيّةٍ. فمتى نافَتْ هذا النّمَطَ. ضاهَتِ السّقَطَ. ولمْ تدْخُلِ السّفَطَ. ولم أرَكُمْ حافَظتُمْ على هذهِ الحُدودِ. ولا مِزْتُمْ بينَ المقبولِ والمرْدودِ. فقُلْنا لهُ: صدَقْتَ. وبالحقّ نطَقْتَ. فكِلْ لَنا منْ لُبابِكَ. وأفِضْ عليْنا منْ عُبابِكَ. فقال: أفْعَلُ لئلاّ يرْتابَ المُبطِلونَ. ويظنّوا بيَ الظّنونَ. ثمّ قابلَ ناظُورَةَ القومِ وقال:

يا مَنْ سَـمـا بـذَكـاءٍ *** في الفضلِ واري الزِّنادِ

 

ماذا يُمـاثِـلُ قـولـي *** جوعٌ أُمِــدّ بـــزادِ

 

ثمّ ضحِكَ إلى الثّاني وأنشدَ:

يا ذا الذي فاقَ فضْلاً *** ولمْ يُدَنّـسْـهُ شَـينُ

 

ما مثلُ قوْلِ المُحاجي *** ظهْرٌ أصابَتْهُ عـينُ

 

ثمّ لحَظَ الثّالِثَ وأنشأ يقول:

يا مَنْ نتـائِجُ فـكـرِهِ *** مثلُ النّقودِ الجـائِزَهْ

 

ما مثلُ قولِكَ لـلّـذي *** حاجَيْتَ صادَفَ جائِزَهْ

 

ثمّ أتلَعَ إلى الرّابِعِ وقال:

 

 

أيا مُستَنْبِـطَ الـغـامـ *** ضِ منْ لُغْزٍ وإضْمارِ

 

ألا اكْشِفْ ليَ ما مثلُ *** تنـاوَلْ ألـفَ دينـارِ

 

ثمّ رَمى الخامِسَ ببصرِه وقال:

يا أيّهَـذا الألْـمَــعـ *** يّ أخو الذّكاء المُنجَلي

 

ما مثلُ أهْمَلَ حِـلـيَةً *** بيِّنْ هُديتَ وعـجِّـلِ

 

ثمّ التفَت لفْتَ السّادِسِ وقال:

يا مَنْ تقـصّـرُ عـن مَـدا *** هُ خُطى مُجارِيهِ وتضْعُـفْ

 

ما مثـلُ قـولِـكَ لـلّـذي *** أضْحى يحاجيكَ اكفُفِ اكفُفْ

 

ثمّ خلجَ السابعَ بحاجِبِه وقال:

يا منْ لهُ فِطنَةٌ تـجـلّـتْ *** ورُتبَةٌ في الذّكاء جـلّـتْ

 

بيّنْ فمـا زِلْـتَ ذا بَـيانٍ *** ما مثلُ قولي الشَقيقُ أفلَتْ

 

ثم استنْصَتَ الثّامِنَ وأنشدَ:

يا مَـنْ حـدائِقُ فـضـلِــهِ *** مطلولَةُ الأزهـارِ غـضّـهْ

 

ما مثلُ قـولِـكَ لـلـمُـحـا *** جي ذي الحِجى ما اختارَ فِضّهْ

 

ثمّ حدجَ التاسِعَ ببصرِهِ وقال:


يا منْ يُشارُ إليهِ فـي الـ *** قلبِ الذّكيّ وفي البَراعَهْ

 

أوضِحْ لنا ما مثـلُ قـوْ *** لِكَ للمُحاجي دُسْ جماعَهْ

 

قال الراوي: فلما انتهى إليّ. هزّ مَنكِبَيّ. وقال:

 

 

يا منْ لهُ النُّكَـتُ الـتـي *** يُشجي الخُصومَ بها وينكُتْ

 

أنتَ المُبينُ فـقُـلْ لـنـا *** ما مثلُ قوْلي خاليَ اسكُتْ

 

ثم قال: قد أنْهلْتُكُمْ وأمهَلتُكُمْ. وإنْ شِئْتُمْ أنْ أعُلّكُمْ علّلتُكُمْ. قال: فألْجأنا لهَبُ الغُلَلِ. إلى استِسقاء العَلَلِ. فقال: لستُ كمَنْ يستأثِرُ على نَديمِهِ. ولا ممّنْ سمْنُهُ في أديمِه. ثمّ كرّ على الأوّلِ وقال:

يا منْ إذا أشكلَ المُعَمّى *** جلَتْهُ أفكارهُ الدّقـيقَـهْ

 

إنْ قال يوماً لكَ المُحاجي *** خذْ تلكَ ما مِثلُهُ حَقيقَـهْ

 

ثم ثَنى جيدَهُ إلى الثّاني وقال:

يا منْ بَدا بـيانُـهُ *** عنْ فضلِهِ مُبيِّنا

 

ماذا مثالُ قولِهِـمْ *** حِمارُ وحْشٍ زُيّنا

 

ثم أوحى إلى الثالثِ بلحْظِهِ وقال:

يا منْ غدا في فضلِهِ *** وذكائِهِ كالأصْمَعي

 

ما مثلُ قولِكَ للـذي *** حاجاكَ أنْفِقْ تقمَعِ

 

ثمّ حملَقَ إلى الرّابعِ وأنشدَ:

يا منْ إذا ما عَويصٌ *** دجا أنارَ ظلامَـهْ

 

ماذا يُماثِلُ قـوْلـي *** إسْتَنْشِ ريحَ مُدامَهْ

 

ثمّ أومضَ إلى الخامِسِ وقال:

يا مَنْ تـنـزّهَ فَـهـمُـهُ *** عنْ أن يرَوّي أو يَشُـكّـا

 

ما مثلُ قـولِـكَ لـلـذي *** أضْحى يُحاجي غطِّ هَلكى

 

ثمّ أقبلَ قِبَلَ السادِسِ وأنشدَ:

يا أخا الفِطنَةِ التي *** بانَ فيها كمالُـهُ

 

سارَ باللّيلِ مُـدّةً *** أيُّ شيءٍ مثالُـهُ

 

ثم نَحا بصرَهُ إلى السابِعِ وقال:

يا منْ تحلّى بفَـهْـمٍ *** أقامَ في الناسِ سوقَهْ

لكَ البَـيانُ فـبـيّنْ *** ما مثلُ أحْبِبْ فَروقَهْ

 

ثم قصدَ قصْدَ الثامنِ وأنشدَ:

يا مـنْ تـبـــوّأ ذِروَةً *** في المجدِ فاقتْ كلَّ ذرْوَهْ

 

ما مثلُ قولِـكَ أعـطِ إذْ *** ريقاً يلوحُ بغيرِ عُـروَهْ

 

ثم ابتسمَ إلى التّاسِعِ وقال:

يا مَنْ حوَى حُسـنَ الـدّرا *** يَةِ والبَيانِ بـغـيرِ شـكِّ

 

ما مثلُ قولِكَ لـلـمُـحـا *** جي ذي الذّكاء الثّورُ مِلكي

 

ثم قبَضَ بجُمْعِهِ على رُدْني وقال:

يا مَنْ سَما بثُقوبِ فِطنَـتِـهِ *** في المُشكلاتِ ونورِ كوْكبهِ

ماذا مِثالُ صَفيرُ جَحـفَـلةٍ *** بيّنْـهُ تِـبْـيانـاً ينـمّ بـهِ

قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أطرَبَنا بما سمِعْناهُ. وطالَبَنا مُكاشَفَةَ معْناهُ. قُلنا لهُ: لسْنا منْ خيلِ هذا المَيدانِ. ولا لَنا بحَلّ هذِه العُقَدِ يَدانِ. فإنْ أبَنْتَ. مننْتَ. وإنْ كتَمْتَ. غممْتَ. فظَلّ يُشاوِرُ نفسَيْهِ. ويُقلّبُ قِدْحَيْهِ. حتى هانَ بذْلُ الماعونِ عليْهِ. فأقبَلَ حينئذٍ على الجَماعةِ. وقال: يا أّلَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ. سأعلّمُكُمْ ما لمْ تكونوا تعْلَمونَ. ولا ظننْتُمْ أنّكُمْ تُعلَّمونَ. فأوْكوا عليْهِ الأوعِيَةَ. وروِّضوا بهِ الأنديَةَ. ثمّ أخذَ في تفسيرٍ صقلَ به الأذْهانَ. واستفْرَغ معهُ الأرْذانَ. حتى آضَتِ الأفْهامُ أنْوَرَ منَ الشّمسِ. والأكْمامُ كأنْ لمْ تغْنَ بالأمسِ. ولمّا همّ بالمَفرّ. سُئِلَ عنِ المَقَرّ. فتنفّسَ كم تتنفّسُ الثَّكولُ. وأنشأ يقولُ:

كلُّ شِعْبٍ ليَ شِعْـبُ *** وبهِ رَبْعـيَ رحْـبُ

 

غيرَ أنّـي بـسَـروجٍ *** مُستَهامُ القلْبِ صَـبّ

 

هيَ أرضي البِكرُ والجـ *** وُّ الذي فيهِ المَـهَـبّ

 

والى روضَتِها الغـنّـا *** ء دونَ الرّوضِ أصْبو

 

ما حَلا لي بعْدَها حُـلْـ *** وٌ ولا اعْذَوْذَبَ عذْبُ

 

قال الراوي: فقلْتُ لأصحابي هذا أبو زيدٍ السَّروجيّ. الذي أدْنى مُلَحِهِ الأحاجيّ. وأخذْتُ أصِفُ لهُمْ حُسنَ توشيَتِهِ. وانقِيادَ الكَلامِ لمشيّتِهِ. ثمّ التفَتُّ فإذا بهِ قدْ طمَرَ. وناءَ بما قمَرَ. فعجِبْنا ممّا صنَعَ إذْ وقَعَ. ولمْ ندْرِ أيْنَ سكَعَ وصَقَعَ.

تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة

 

أما جوع أمدّ بزاد. فمثله طوامير. وأما ظَهر إصابته عَين، فمثله مطاعين. وأما صادف جائزة، فمثله الفاصلة. وأما تناول ألف دينار، فمثله هادية. وأما أهمل حلية، فمثله الغاشية. وأما اكفف اكفف، فمثله مهمه. وأما الشقيق افلت، فمثله أخطار. وأما ما اختار فضة. فمثله أبارقة، لأن الرقة من أسماء الفضة وقد نطق بها النبي، ﷺ، فقال في الرقة ربع العشر. وأما دس جماعة، فمثله طافية. وأما خالي اسكت، فمثله خالصة، لأنك إذا ناديت مضافاً إلى نفسك جاز لك حذف الياء وإثباتها ساكنة ومتحرّكة، وقد حذف ههنا حرف النداء كما حذفه في أصل الأحجية، وصه بمعنى اسكت. وأما خذ تلك، فمثله هاتيك، وأما حمار وحش زينا، فمثله فرازين، لأن الفرا حمار الوحش، ومنه الحديث: كل الصيد في جوف الفرا. وأما قوله انفق تقمع، فمثله منتقم، لأن الأمر من مان يمون مُنْ. ومضارع وقمت تقِم. وأما استنش ريح مدامة، فمثله رحراح، لأن الأمر من استدعاء الرائحة رح. وأما غطِّ هلكى، فمثله صُنبور، لأن البور هم الهلكى، وفي القرآن: وكنتم قوماً بوراً. وأما سار بالليل مدة، فمثله سراحين. وأما احبب فروقة، فمثله مقلاع، لأن الأمر من ومق يمق مق، واللاع الجبان، يقال فلان هاع لاع إذا كان جباناً جزعاً. وأما اعطِ إبريقاً يلوح بغير عروة، فمثله اسكوب، لأن الأوس الإعطاء والأمر اس، والكوب الإبريق بغير عروة، وأما الثور ملكي، فمثله اللآلي، لأن اللأى على وزن القنا هو ثور الوحش. وأما صفير جحفلة، فمثله مكاشفة، لأن المكاء الصفير. قال الله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية؛ والأصل في المكاء المد ولكنه قصره في هذه الأحجية كما حذف همزة الفراء في أحجيته. وكلا الأمرين من قصر الممدود وحذف همزة المهموز جائز.

======================

مقامات الحريري/المقامة النجرانية

 مقامات الحريري

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: تَرامتْ بي مَرامي النّوى. ومسَاري الهَوى. إلى أن صِرْتُ ابنَ كُلّ تُربَةٍ. وأخا كُلّ غُربةٍ. إلا أني لمْ أكُنْ أقطَعُ وادِياً. ولا أشهَدُ نادِياً. إلا لاقْتِباسِ الأدَبِ المُسْلي عنِ الأشْجانِ. المُغْلي قيمَةَ الإنسانِ. حتى عُرِفَتْ لي هذه الشِّنْشِنَةُ. وتناقلَتْها عني الألسنَةُ. وصارتْ أعْلَقَ بي منَ الهوى ببَني عُذْرَةَ. والشّجاعَةِ بآلِ أبي صُفرَةَ. فلمّا ألْقَيتُ الجِرانَ بنَجْرانَ. واصطَفَيتُ بها الخُلاّنَ والجيرانَ. تخِذْتُ أندِيَتَها مُعتَمَري. وموسِمَ فُكاهَتي وسمَري. فكنْتُ أتعَهّدُها صَباحَ مساء. وأظهَرُ فيها على ما سرّ وساء. فبَينَما أنا في نادٍ محْشودٍ. ومحْفِلٍ مشْهودٍ. إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ. ثمّ قال: يا بُدورَ المَحافِلِ. وبحورَ النّوافِلِ. قد بيّنَ الصّبْحُ لِذي عيْنَينِ. ونابَ العِيانُ مَنابَ عدْلَينِ. فماذا تَروْنَ. في ما ترَوْنَ؟ أتُحسِنونَ العَوْنَ. أم تنأوْنَ. إذْ تُدعَوْنَ؟ فقالوا: تاللهِ لقَدْ غِظْتَ. ورُمْتَ أن تُنبِطَ فغِضْتَ. فناشَدَهُمُ اللهَ عمّاذا صدّهُمْ. حتى استَوجَبَ ردَّهُمْ. فقالوا: كنّا نتَناضَلُ بالألْغازِ. كما يُتَناضَلُ يومَ البِرازِ. فما تمالَكَ أن شعّثَ منَ المَنْضولِ. وألْحَقَ هذا الفضْلَ بنمَطِ الفُضولِ. فلَسَنَتْهُ لُسْنُ القوْمِ. ووَخَزوهُ بأسنّةِ اللّوْمِ. وأخذَ هوَ يتنصّلُ من هَفوَتِهِ. ويتندّمُ على فَوْهَتِهِ. وهُمْ مُضِبّونَ على مؤاخذَتِهِ. ومُلَبّونَ داعيَ مُنابَذَتِهِ. إلى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ. فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ. ثمّ هلُمّ إلى أن نُلغِزَ. ونُحكّمَ المُبرِّزَ. فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ. وانحَلّتْ عُقدُهمْ. ورَضوا بما شرَطَ عليهِمْ ولَهُمْ. واقتَرَحوا أنْ يكونَ أوّلَهُمْ. فأمْسكَ ريْثَما يُعقَدُ شِسْعٌ. أو يُشَدّ نِسْعٌ. ثمّ قال: اسمَعوا وُقيتُمُ الطّيشَ. ومُلّيتُمُ العيْشَ. وأنشدَ مُلغِزاً في مِروَحَةِ الخيْش:

وجارِيَةٍ في سيرِها مُشـمَـعِـلّةٍ *** ولكِنْ على إثْرِ المَسيرِ قُفولُهـا

 

لها سائِقٌ من جِنسِها يستَحثّـهـا *** على أنهُ في الإحتِثاثِ رَسيلُهـا

 

تُرى في أوانِ القَيظِ تنظُفُ بالنّدى *** ويَبدو إذا ولّى المَصيفُ قُحولُها

 

ثمّ قال: وهاكُمْ يا أولي الفضْلِ. ومَراكِزَ العقْلِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في حابولِ النّخْلِ:

ومُنتَسِـبٍ إلى أمٍّ *** تَنَشّا أصْلُهُ منْهـا

 

يعانِقُها وقد كانـتْ *** نفَتْهُ بُرهَةً عنْهـا

 

بهِ يتوصّلُ الجانـي *** ولا يُلْحى ولا يُنْهى

 

ثمّ قال: ودونَكُمُ الخَفيّةَ العلَمِ. المُعتَكِرَةَ الظُلَمِ. وأنشدَ مُلغِزاً في القلَمِ:

ومأمومٍ بهِ عُـرِفَ الإمـامُ *** كما باهَتْ بصُحْبَتِهِ الكِرامُ

 

لهُ إذ يرتَوي طَيْشانُ صـادٍ *** ويسكُنُ حينَ يعْروهُ الأُوامُ

 

ويُذْري حين يُستَسْعى دُموعاً *** يرُقْنَ كما يروقُ الإبتِسـامُ

 

ثمّ قال: وعلَيْكُمْ بالواضِحَةِ الدّليلِ. الفاضِحَةِ ما قيلَ. وأنشدَ مُلغِزاً في المِيلِ:

وما ناكِحٌ أُختَينِ جَهْـراً وخُـفـيَةً *** وليسَ عليهِ في النّكـاحِ سَـبـيلُ

 

متى يغْشَ هذي يغْشَ في الحالِ هذه *** وإنْ مالَ بعْلٌ لـمْ تـجِـدْهُ يَمـيلُ

 

يَزيدُهُما عندَ المَشـيبِ تـعـهّـداً *** وبِرّاً وهذا في البُـعـولِ قَـلـيلُ

 

ثم قال: وهذِهِ يا أولي الألْبابِ. مِعْيارُ الآدابِ. وأنشَد مُلغِزاً في الدّولابِ:

وجافٍ وهْوَ موْصولٌ *** وَصولٌ ليسَ بالجافي

 

غَريقٌ بارِزٌ فاعْجَـبْ *** لهُ منْ راسِبٍ طافِ

 

يسُحّ دُموعَ مهْضـومٍ *** ويهْضِمُ هَضْمَ مِتْلافِ

 

وتُخْشى منهُ حِـدّتُـهُ *** ولكِنْ قلبُـهُ صـافِ

 

قال: فلمّا رشَقَ. بالخَمْسِ التي نسَقَ. قال: يا قوْمِ تدَبّروا هذهِ الخمْسَ. واعْقِدوا عليْها الخَمْسَ. ثمّ رأيَكُمْ وضَمّ الذّيلِ. أوِ الازدِيادَ منْ هَذا الكَيْلِ! قال: فاستَفزّتِ القوْمَ شهوَةُ الزّيادَةِ. على ما أُشرِبوا منَ البَلادَةِ. فقالوا لهُ: إنّ وُقوفَنا دونَ حدّكَ. ليُفْحِمُنا عنِ استِيراء زنْدِكَ. واستِشْفافِ فِرِنْدِكَ. فإنْ أتْمَمتَ عشْراً فمِنْ عِندِكَ. فاهتزّ اهتِزازَ منْ فلَجَ سهمُهُ. وانخَزَلَ خصْمُهُ. ثمّ افتَتَح النُطْقَ بالبَسمَلَةِ. وأنشدَ مُلغِزاً في المُزَمَّلَةِ:

ومَسْرورَةٍ مَغمومَةٍ طولَ دهـرِهـا *** وما هيَ تدري ما السُرورُ ولا الغَـمُّ

 

تُقرَّبُ أحـيانـاً لأجْـلِ جَـنـينِـهـا *** وكـمْ ولـدٍ لـوْلاهُ طُـلّـقَـتِ الأمُّ

 

وتُبعَدُ أحياناً ومـا حـالَ عـهـدُهـا *** وإبعادُ من لم يَستَحِلْ عهـدُه ظُـلـمُ

 

إذا قَصُرَ الليلُ استُـلِـذّ وصـالُـهـا *** وإن طالَ فالإعراضُ عن وصْلِها غُنمُ

لها ملـبَـسٌ بـادٍ أنـيقٌ مـبَـطَّـنٌ *** بما يُزْدَرى لكنْ لِما يُزْدرى الحُـكـمُ

 

ثم كشَرَ عن أنيابِهِ الصُفْرِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الظُفْرِ:

ومرهوبِ الشَّـبـا نـامٍ *** وما يرْعى ولا يشـرَبْ

 

يُرى في العَشْرِ دونَ النّحْـ *** ـرِ فاسمَعْ وصفَهُ واعْجَبْ

 

ثم تخازرَ تخازُرَ العِفْريتِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في طاقَةِ الكِبريتِ:


وما مَحْقورَةٌ تُدْنى وتُقْصى *** وما منْها إذا فكّـرْتَ بُـدُّ

 

لها رأسانِ مُشتَبِهانِ جِـداً *** وكُلٌ منهُما لأخـيهِ ضِـدُّ

 

تعذَّبُ إن هُما خُضِبا وتُلغى *** إذا عَدِما الخِضابَ ولا تُعَدّ

 

ثمّ تخمّطَ تخمُّطَ القَرْمِ. وأنشدَ في حلَبِ الكَرْمِ:

وما شيءٌ إذا فسَـدا *** تحوّلَ غـيُّهُ رشَـدا

 

وإنْ هوَ راقَ أوصافاً *** أثارَ الشرّ حيثُ بَدا

 

زَكيُّ العِرقِ والِـدُهُ *** ولكِنْ بِئْسَ ما ولَـدا

 

ثمّ اعتَضَدَ عَصا التَّسيارِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الطيّارِ:

 

 

وذي طَيشَةٍ شِـقُّـهُ مـائِلٌ *** وما عابَهُ بهِمـا عـاقِـلُ

 

يُرى أبـداً فـوقَ عِـلّـيّةٍ *** كما يعْتَلي المَلِكُ العـادِلُ

 

تساوَى لدَيْهِ الحَصا والنُّضارُ *** وما يستَوي الحقُّ والباطلُ

 

وأعْجَبُ أوصافِهِ إنْ نظرْتَ *** كما ينظُرُ الكَيّسُ الفاضِـلُ

 

تَراضي الخُصومِ بهِ حاكِماً *** وقدْ عرَفـوا أنّـهُ مـائِلُ

 

قال: فظلّتِ الأفكارُ تَهيمُ في أوديةِ الأوْهامِ. وتَجولُ جوَلانَ المُستَهامِ. إلى أن طالَ الأمَدُ. وحصْحَصَ الكمَدُ. فلمّا رآهُمْ يزنِدونَ ولا سَنا. ويقْضونَ النّهارَ بالمُنى. قال: يا قومِ إلامَ تنظُرونَ. وحتّامَ تُنظَرونَ؟ ألَمْ يأنِ لكُمُ استِخْراجُ الخَبيّ. أو استِسلامُ الغَبيّ؟فقالوا: تاللهِ لقدْ أعْوَصْتَ. ونصَبْتَ الشَّرَكَ فقنَصْتَ. فتحَكّمْ كيفَ شيتَ. وحُزِ الغُنْمَ والصّيتَ. ففرَضَ عنْ كلّ مُعَمًى فرْضاً. واستخلَصَهُ منهُمْ نَضّاً. ثمّ فتَح الأقفالَ. ورسمَ الأغْفالَ. وحاولَ الإجْفالَ. فاعتلَقَ بهِ مِدرَهُ القومِ. وقال لهُ: لا لُبسَةَ بعْدَ اليومِ. فاستَنْسِبْ قبلَ الانطِلاقِ. وهَبْها مُتعَةَ الطّلاقِ. فأطْرَقَ حتى قُلْنا مُريبٌ. ثمّ أنشَدَ والدمعُ مُجيبٌ:

 

 

سَروجُ مطْلِعُ شمْسي *** وربْعُ لَهْوي وأُنسـي

 

لكِنْ حُرِمْتُ نَعيمـي *** بها ولَذةَ نـفْـسـي

 

واعْتَضْتُ عنها اغْتِراباً *** أمَرَّ يومي وأمْسـي

 

ما لي مقَـرٌّ بـأرضٍ *** ولا قَرارٌ لعَنْـسـيْ

 

يوماً بنَـجـدٍ ويوْمـاً *** بالشّأمِ أُضْحي وأُمسي

 

أُزْجي الزّمانَ بقـوتٍ *** منغّصٍ مُستَـخَـسّ

 

ولا أبـيتُ وعـنـدي *** فلْسٌ ومَنْ لي بفَلْـسِ

 

ومنْ يعِشْ مثلَ عيشي *** باعَ الحياةَ ببـخْـسِ

 

ثم إنّهُ اخْتَبَن خُلاصَةَ النّضّ. وندرَ ضارِباً في الأرضِ. فناشدْناهُ أن يعودَ. وأسْنَيْنا لهُ الوعودَ. فلا وأبيكَ ما رجعَ. ولا التّرغيبُ لهُ نجعَ.

==============

مقامات الحريري/المقامة النصيبية

 مقامات الحريري

روى الحارثُ بنُ همّام قال: أمْحَلَ العِراقُ ذاتَ العُوَيْمِ. لإخْلافِ أنواء الغَيْمِ. وتحدّثَ الرُكْبانُ بريفِ نَصيبِينَ. وبُلَهْنِيَةِ أهلِها المُخصِبينَ. فاقتَعَدْتُ مَهْرِيّاً. واعْتقلْتُ سمْهَرياً. وسِرْتُ تلفِظُني أرضٌ إلى أرضٍ. ويجذِبُني رفْعٌ منْ خفْضٍ. حتى بلغْتُها نِقْضاً على نِقضٍ. فلمّا أنخْتُ بمغْناها الخصيبِ. وضربْتُ في مرْعاها بنَصيبٍ. نوَيْتُ أن أُلْقيَ بها جِراني. وأتّخذَ أهلَها جيراني. إلى أنْ تحْيا السّنَةُ الجَمادُ. وتتعهّدُ أرضَ قوْمي العِهادُ. فواللهِ ما تمَضْمَضَتْ مُقلَتي بنوْمِها. ولا تمخّضَتْ ليْلَتي عن يومِها. دونَ أن ألفَيْتُ أبا زيدٍ السَّروجيَّ يجولُ في أرجاء نَصيبينَ. ويخبِطُ بها خبْطَ المُصابينَ والمُصيبينَ. وهوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ. ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ. فوجدْتُ بها جِهاديَ قد حازَ مَغنَماً. وقِدْحيَ الفَذّ قد صار توْأماً. ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث. وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ. إلى أنْ عراهُ مرضٌ امتدّ مَداهُ. وعرَقَتْهُ مُداهُ. حتى كادَ يسلُبُه ثوبَ المَحْيا. ويسلّمُهُ إلى أبي يَحْيى. فوجدْتُ لفَوْتِ لُقياهُ. وانقِطاعِ سُقْياهُ. ما يجدُهُ المُبعَدُ عن مرامِهِ. والمُرضَعُ عندَ فِطامِهِ. ثمّ أرْجِفَ بأنّ رهْنَهُ قد غلِقَ. ومِخْلَبَ الحِمامِ بهِ قد علِقَ. فقَلِقَ صحْبُهُ لإرْجافِ المُرْجِفينَ. وانثالوا إلى عَقوَتِهِ مُوجِفينَ:

حَيارى يميدُ بهـمْ شَـجْـوُهُـمْ *** كأنّهمُ ارتَضعوا الخـنـدَريسـا

 

أسالوا الغُروبَ وعطّوا الجُيوبَ *** وصكّوا الخدودَ وشجّوا الرّؤوسا

 

يودونَ لوْ سالمَتْـهُ الـمَـنـونُ *** وغالَتْ نفائِسَهُمْ والنّـفـوسـا

 

قال الرّاوي: وكنتُ في مَنِ التفّ بأصْحابِه. وأغذّ إلى بابِه. فلمّا انتهيْنا إلى فِنائِه. وتصدّينا لاستِنْشاء أنْبائِهِ. برزَ إليْنا فتاهُ. مُفترّةً شفتَاهُ. فاستَطْلَعناهُ طِلْعَ الشيخِ في شَكاتِهِ. وكُنْهَ قُوى حرَكاتِهِ. فقال: قدْ كان في قبْضَةِ المرْضَةِ. وعرْكَةِ الوعْكَةِ. إلى أنْ شفّهُ الدّنَفُ. واستشفّهُ التّلَفُ. ثمّ منّ اللهُ تَعالى بتقويةِ ذمائِهِ. فأفاقَ منْ إغمائِهِ. فارْجِعوا أدراجَكُمْ. وانْضوا انزِعاجَكُمْ. فكأنْ قد غَدا وراحَ. وساقاكُمُ الرّاحَ. فأعْظَمْنا بُشْراهُ. واقترَحْنا أنْ نَراهُ. فدخَلَ مؤذِناً بِنا. ثمّ خرَج آذِناً لنا. فلَقينا منْهُ لَقًى. ولِساناً طلْقاً. وجلسْنا مُحدِقين بسَريرِهِ. محدّقينَ إلى أساريرِه. فقلّبَ طرْفَهُ في الجَماعةِ. ثمّ قال: اجْتَلوها بنتَ السّاعةِ. وأنشَد:

 

 

عافانيَ اللهُ وشُكْـراً لـهُ *** منْ عِلّة كادتْ تُعَفّينـي

 

ومنّ بالبُرْء علـى أنّـهُ *** لا بُدّ منْ حتْفٍ سيَبْريني

 

ما يتَناسانـي ولـكـنّـهُ *** إلى تقضّي الأُكْلِ يُنْسيني

 

إنْ حُمّ لمْ يُغْنِ حَمـيمٌ ولا *** حمَى كُلَيْبٍ منْهُ يحْميني

 

وم أُبالـي أدَنـا يومُـهُ *** أم أُخّرَ الحَينُ إلى حـينِ

 

فأيُّ فخْرٍ في حَـياةٍ أرى *** فيها البَلايا ثمّ تُبْلـينـي

 

قال: فدعَوْنا لهُ بامتِدادِ الأجلِ. وارتِدادِ الوجَلِ. ثمّ تداعَيْنا إلى القِيامِ. لاتّقاءِ الإبْرامِ. فقالَ: كلاّ بلِ البَثوا بَياضَ يومِكُمْ عِندي. لتَشْفوا بالمَفاكَهَةِ وجْدي. فإنّ مُناجاتَكُمْ قوتُ نفْسي. ومَغْناطيسُ أُنسي. فتحرّيْنا مرْضاتَهُ. وتحامَيْنا مُعاصاتَهُ. وأقبَلْنا على الحَديثِ نمْخُضُ زُبْدَهُ. ونُلْغي زبَدَه. إلى أنْ حانَ وقتُ المَقيلِ. وكلّتِ الألسُنُ منَ القالِ والقيلِ. وكان يوْماً حاميَ الوَديقَةِ. يانِعَ الحَديقَةِ. فقال: إنّ النّعاسَ قدْ أمالَ الأعْناقَ. وراودَ الآماقَ. وهو خصْمٌ ألَدُّ. وخِطْبٌ لا يُرَدُّ. فصِلوا حبْلَهُ بالقَيْلولَةِ. واقْتَدوا فيهِ بالآثارِ المنقولةِ. قال الرّاوي: فاتّبعْنا ما قالَ. وقِلْنا وقالَ. فضربَ اللهُ على الآذانِ. وأفرَغَ السِّنَةَ في الأجْفانِ. حى خرَجْنا منْ حُكْمِ الوجودِ. وصُرِفْنا بالهُجودِ. عنِ السّجودِ. فما استيْقَظْنا إلا والحرُّ قدْ باخَ. واليومُ قد شاخَ. فتكرّعْنا لصَلاةِ العَجْماوَينِ. وأدّيْنا ما حَلّ منَ الدّينِ. ثمّ تحثْحَثْنا للارْتِحالِ. إلى مُلْقى الرِّحالِ. فالتَفَتَ أبو زيدٍ إلى شِبلِهِ. وكان على شاكِلَتِه وشكْلِهِ. وقال: إني لإخالُ أبا عَمْرَةَ. قد أضْرَمَ في أحشائِهِم الجَمرَةَ. فاسْتَدْعِ أبا جامِعٍ. فإنّهُ بُشرى كُلّ جائِعٍ. وأردِفْهُ بأبي نُعَيمٍ. الصّابِرِ على كلّ ضيْمٍ. ثمّ عزّزْ بأبي حَبيبٍ. المُحبَّبِ إلى كلّ لَبيبٍ. المقَلَّبِ بينَ إحْراقٍ وتعْذيبٍ. وأهِّبْ بأبي ثَقيفٍ. فحبّذا هوَ منْ أليفٍ. وهلْمُمْ بأبي عوْنٍ. فما مثلُهُ منْ عوْنٍ. ولوِ استحْضَرْتَ أبا جميلٍ. لجَمّلَ أيّ تجْميلٍ. وحَيَّ هلَ بأمّ القِرَى. المذَكِّرةِ بكِسْرى. ولا تتناسَ أمّ جابِرٍ. فكمْ لها منْ ذاكِرٍ. ونادِ أمّ الفرَجِ. ثمّ افتِكْ بها ولا حرَجَ. واختِمْ بأبي رَزينٍ. فهُو مسْلاةُ كلّ حزينٍ. وإنْ تقْرُنْ بهِ أبا العَلاء. تمْحُ اسمَكَ من البُخَلاء. وإيّاكَ واستِدْناءَ المُرْجفَينِ. قبلَ استِقلالِ حُمولِ البَينِ. وإذا نزَعَ القوْمُ عنِ المِراسِ. وصافَحوا أبا إياسٍ. فأطِفْ علَيْهِمْ أبا السَّرْوِ. فإنّهُ عُنْوانُ السّرْوِ. قال: ففَقِهَ ابنُهُ لَطائِفَ رُموزِهِ. بلَطافَةِ تمْييزِهِ. فطافَ عليْنا بالطّيّباتِ والطِّيبِ. إلى أنْ آذَنَتْ الشّمسُ بالمَغيبِ. فلمّا أجْمَعْنا على التّوديعِ. قُلْنا لهُ: ألمْ ترَ إلى هذا اليومِ البديعِ؟ كيفَ بَدا صُبحُهُ قمْطَريراً. ومُسْيُهُ مُستَنيراً؟ فسجَدَ حتى أطالَ. ثمّ رفَعَ رأسَهُ وقالَ:

 

 

 

لا تيْأسَنْ عندَ الـنُّـوَبْ *** منْ فرْجَةٍ تجلو الكُرَبْ

 

فلكَمْ سَمـومٍ هـبّ ثـ *** مّ جرَى نسيمً وانقَلَـبْ

 

وسَحابِ مكْـروهٍ تـنـ *** شّا فاضْمَحَلّ وما سكَبْ

 

ودُخانِ خطْبٍ خِيفَ منْ *** هُ فما استَبانَ لهُ لهَـبْ

 

ولَطالَما طلَعَ الأسـى *** وعلى تَفيئَتِـه غـرَبْ

 

فاصْبِرْ إذا ما نابَ روْ *** عٌ فالزّمانُ أبو العجَبْ

 

وترَجّ مـنْ رَوْحِ الإلـ *** ـهِ لَطائِفاً لا تُحْتَـسَـبْ

 

 

قال: فاستَمْلَيْنا منْهُ أبياتَهُ الغُرّ. وواليْنا للهِ تَعالى الشُكْرَ. وودّعْناهُ مسرورينَ ببُرْئِهِ. مَغْمورينَ ببِرّهِ.

=============

مقامات الحريري/المقامة الواسطية

  مقامات الحريري

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: ألْجأني حُكمُ دهْرٍ قاسِطٍ. إلى أنْ أنتَجِعَ أرضَ واسِطٍ. فقصَدْتُها وأنا لا أعرِفُ بها سكَناً. ولا أملِكُ فيها مسْكِناً. ولمّا حللْتُها حُلولَ الحوتِ بالبَيْداءِ. والشّعرَةِ البيضاء في اللِّمَةِ السّوداء. قادَني الحظُّ الناقِصُ. والجَدُّ النّاكِصُ. إلى خانٍ ينزِلُهُ شُذّاذُ الآفاقِ. وأخْلاطُ الرّفاقِ. وهوَ لنَظافَةِ مكانِهِ. وظَرافَةِ سكّانِهِ. يرَغّبُ الغَريبَ في إيطانِهِ. ويُنسِيهِ هوَى أوطانِهِ. فاستَفْرَدْتُ منهُ بحُجرَةٍ. ولمْ أُنافِسْ في أُجرَةٍ. فما كان إلا كلَمْحِ طرْفٍ. أو خطّ حرْفٍ. حتى سمِعتُ جاري بيْتَ بيْتَ. يقولُ لنَزيلِهِ في البيتِ: قُمْ يا بُنيّ لا قَعَدَ جَدُّكَ. ولا قامَ ضِدُّكَ. واستَصْحِبْ ذا الوجْهِ البَدْريّ. واللّوْنِ الدُرّيّ. والأصْلِ النّقيّ. والجسْمِ الشّقيّ. الذي قُبِضَ ونُشِرَ. وسُجِنَ وشُهِرَ. وسُقِيَ وفُطِمَ. وأُدْخِلَ النّارَ بعْدَما لُطِمَ. ثمّ ارْكُضْ بهِ إلى السّوقِ. ركْضَ المَشوقِ. فقايِضْ بهِ اللاّقِحَ المُلْقِحَ. المُفسِدَ المُصلِحَ. المُكْمِدَ المُفَرِّحَ. المُعَنّيَ المُروّحَ. ذا الزّفيرِ المُحرِقِ. والجَنينِ المُشرِقِ. واللّفْظِ المُقنِعِ. والنَّيْلِ المُمْتِعِ. الذي إذا طُرِقَ. رعَدَ وبرَقَ. وباحَ بالحُرَقِ. ونفَثَ في الخِرَقِ. قال: فلمّا قرّتْ شِقْشِقَةُ الهادِرِ. ولمْ يبْقَ إلا صدَرُ الصّادِرِ. برزَ فتًى يَميسُ. وما معَهُ أنيسٌ. فرأيتُها عُضْلَةً تلعَبُ بالعُقولِ. وتُغْري بالدّخولِ. في الفُضولِ. فانطلَقْتُ في أثَرِ الغُلامِ. لأخْبُرَ فحْوَى الكلامِ. فلمْ يزَلْ يسْعى سعْيَ العَفاريتِ. ويتفَقّدُ نضائِدَ الحوانيتِ. حتى انْتَهى عندَ الرّواحِ. إلى حِجارَةِ القَدّاحِ. فناوَلَ بائِعَها رَغيفاً. وتَناوَلَ منهُ حجَراً لَطيفاً. فعَجِبْتُ منْ فَطانَةِ المُرسِلِ والمُرسَلِ. وعلِمْتُ أنّها سَروجيّةٌ وإنْ لم أسْألْ. وما كذّبْتُ أنْ بادَرْتُ إلى الخانِ. منطَلِقَ العِنانِ. لأنظُرَ كُنْهَ فَهْمي. وهلْ قرْطَسَ في التّكهّنِ سَهْمي. فإذا أنا في الفِراسَةِ فارِسٌ. وأبو زيْدٍ بوَصيدِ الخانِ جالِسٌ. فتَهادَيْنا بُشْرى الالتِقاء. وتقارَضْنا تحيّةَ الأصْدِقاء. ثمّ قال: ما الذي نابَكَ. حتى زايَلْتَ جَنابَكَ؟ فقلت: دهْرٌ هَ. وجَوْرٌ فاضَ! فقال: والذي أنزَلَ المطرَ منَ الغَمامِ. وأخرَجَ الثّمرَ من الأكْمامِ. لقدْ فسَدَ الزّمانُ. وعمّ العُدْوانُ. وعُدِمَ المِعْوانُ. واللهُ المُستَعانُ. فكيفَ أفْلَتَّ. وعلى أيّ وصْفَيْكَ أجْفَلْتَ؟ فقلتُ: اتّخَذْتُ الليْلَ قَميصاً. وأدْلَجْتُ فيهِ خَميصاً. فأطْرَقَ ينْكُتُ في الأرضِ. ويفكّرُ في ارتِيادِ القَرْضِ والفَرْضِ. ثمّ اهزّ هِزّةَ مَنْ أكْثَبَهُ قنَصٌ. أو بدَتْ لهُ فُرَصٌ. وقال: قد علِقَ بقَلْبي أن تُصاهِرَ منْ يأسو جِراحَكَ. ويَريشُ جَناحَكَ. فقلتُ: وكيفَ أجمَعُ بيَ غُلٍّ وقُلٍّ. ومنِ الذي يرْغَبُ في ضُلّ بنِ ضُلٍّ؟ فقالَ: أنا المُشيرُ بكَ وإلَيْكَ. والوكيلُ لكَ وعليْكَ. معَ أنّ دينَ القوْمِ جبْرُ الكَسيرِ. وفكُّ الأسيرِ. واحتِرامُ العَشيرِ. واستِنْصاحُ المُشيرِ. إلا أنهُمْ لوْ خطَبَ إلَيْهِمْ إبْراهيمُ بنُ أدهَمَ. أو جبَلَةُ بنُ الأيْهَمِ. لما زوّجوهُ إلا على خَمْسِمائَةِ دِرْهَمٍ. اقتِداءً بما مهَرَ الرّسولُ. صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ. زوْجاتِهِ. وعقَدَ بهِ أنكِحَةَ بَناتِهِ. على أنّك لنْ تُطالَبَ بصَداقٍ. ولا تُلْجأ إلى طَلاقٍ. ثمّ إني سأخْطُبُ في موقِفِ عقْدِكَ. ومجْمَعِ حشْدِكَ. خُطبَةً لمْ تفتُقْ رَتْقَ سمْعٍ. ولا خُطِبَ بمِثلِها في جمْعٍ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فازْدَهاني بوصْفِ الخُطْبَةِ المَتْلُوَّةِ. دونَ الخِطبَةِ المَجْلُوّةِ. حتى قُلتُ لهُ: قد وَكلْتُ إليْكَ هذا الخطْبَ. فدبّرْهُ تدْبيرَ منْ طَبّ لمَنْ حبّ. فنهضَ مُهَرْوِلاً. ثمّ عادَ متَهلّلاً. وقال: أبْشِرْ بإعْتابِ الدّهْرِ. واحْتِلابِ الدّرّ! فقد وُلّيتُ العَقْدَ. وأُكفِلْتُ النّقْدَ. وكأنْ قدْ. ثمّ أخذَ في مُواعدَةِ أهلِ الخانِ. وإعْدادِ حَلْواء الخِوانِ. فلمّا مدّ اللّيلُ أطْنابَهُ. وأغْلَقَ كُلُّ ذي بابٍ بابَهُ. أذّنَ في الجَماعَةِ: ألا احْضُروا في هذهِ السّاعةِ! فلمْ يبْقَ فيهِمْ إلا منْ لَبّى صوتَهُ. وحَضرَ بيْتَهُ. فلمّا اصْطَفّوا لدَيْهِ. واجتمَعَ الشاهِدُ والمشْهودُ علَيْهِ. جعلَ يرْفَعُ الأصْطُرْلابَ ويضَعُهُ. ويلْحَظُ التّقويمَ ويدَعهُ. إلى أن نعَسَ القوْمُ. وغشِيَ النّومُ. فقلْتُ لهُ: يا هَذا ضعِ الفاسَ في الرّاسِ. وخلّصِ النّاسَ منَ النّعاسِ. فنظَرَ نظْرَةً في النّجومِ. ثمّ انْتشَطَ منْ عُقلَةِ الوجومِ. وأقْسمَ بالطُّورِ. والكِتابِ المسْطورِ. ليَنْكَشِفَنّ سِرّ هَذا الأمْرِ المسْتورِ. ولَيَنْتَشِرَنّ ذِكْرُهُ إلى يوْمِ النُّشورِ. ثمّ إنّهُ جَثا على رُكْبَتِهِ. واستَرْعى الأسْماعَ لخُطْبَتِهِ. وقال: الحمدُ للهِ الملِكِ المحْمودِ. المالِكِ الوَدودِ. مُصَوّرِ كُلّ موْلودٍ. ومآلِ كلّ مطْرودٍ. ساطِحِ المِهدِ. وموَطِّدِ الأطْوادِ. ومُرْسِلِ الأمطارِ. ومسَهِّلِ الأوْطارِ. وعالِمِ الأسْرارِ ومُدْرِكِها. ومُدمِّرِ الأمْلاكِ ومُهْلِكِها. ومُكَوِّرِ الدّهورِ ومُكرِّرِها. ومُوردِ الأمورِ ومُصدِرِها. عمّ سَماحُهُ وكَملَ. وهطَلَ رُكامُهُ وهمَلَ. وطاوَعَ السّؤلَ والأمَلَ. وأوْسَعَ المُرْمِلَ والأرْمَلَ. أحْمَدُهُ حمْداً ممْدوداً مَداهُ. وأُوَحّدُهُ كما وحّدَهُ الأوّاهُ. وهوَ اللاهُ لا إلَهَ للأمَمِ سِواهُ. ولا صادِعَ لِما عدّلَهُ وسَوّاهُ. أرْسَلَ محمّداً علَماً للإسْلامِ. وإماماً للحُكّامِ. ومُسدِّداً للرَّعاعِ. ومعَطِّلاً أحْكامَ وُدٍّ وسُواعٍ. أعْلَمَ وعلّمَ. وحكَمَ وأحْكَمَ. وأصّلَ الأصولَ ومهّدَ. وأكّدَ الوعودَ وأوْعَدَ. واصَلَ اللهُ لهُ الإكْرامَ. وأوْدَعَ روحَهُ دارَ السّلامِ. ورَحِمَ آلَهُ وأهْلَهُ الكِرامَ. ما لمَعَ آلٌ. وملَعَ رالٌ. وطلَعَ هِلالٌ. وسُمِعَ إهلالٌ. إعْمَلوا رعاكُمُ اللهُ أصلَحَ الأعْمالِ. واسْلُكوا مسالِكَ الحلالِ. واطّرِحوا الحَرامَ ودعوهُ. واسْمَعوا أمرَ اللهِ وعُوهُ. وصِلوا الأرْحامَ وراعوها. وعاصوا الأهْواءَ وارْدَعوها. وصاهِروا لُحَمَ الصّلاحِ والوَرَعِ. وصارِموا رهْطَ اللّهْوِ والطّمَعِ. ومُصاهِرُكُمْ أطْهَرُ الأحْرارِ مولِداً. وأسْراهُمْ سودَداً. وأحْلاهُمْ مَوْرِداً. وأصحّهم موْعِداً. وها هُوَ أَمّكُمْ. وحلّ حرَمكُمْ. مُمْلِكاً عَروسَكُمُ المُكرّمةَ. وماهِراً لها كما مهَرَ الرّسولُ أمَّ سلمَةَ. وهوَ أكْرَمُ صِهْرٍ أودِعَ الأوْلادَ. ومُلّكَ مَنْ أرادَ. وما سَها مُمْلِكُهُ ولا وَهِمَ. ولا وَكِسَ مُلاصِمُهُ ولا وُصِمَ. أسْألُ اللهَ لكُمْ إحْمادَ وِصالِهِ ودَوامَ إسْعادِهِ. وألْهَمَ كُلاً إصْلاحَ حالِهِ والإعْدادَ لمَعادِهِ. ولهُ الحمْدُ السّرمَدُ. والمدْحُ لرَسولِهِ محمّدٍ. فلمّا فرَغَ منْ خُطبَتِه البَديعةِ النّظامِ. العَريّةِ منَ الإعْجامِ. عقَدَ العقْدَ على الخمْسِ المِئِينَ. وقال لي: بالرِّفاء والبَنينَ. ثمّ أحضرَ الحَلْواءَ التي كانَ أعدّها. وأبْدى الآبِدَةَ عندَها. فأقبلْتُ إقْبالَ الجماعَةِ علَيْها. وكِدْتُ أهوي بيَدي إلَيْها. فزجَرَني عنِ المؤاكَلَةِ. وأنْهَضَني للمُناوَلَةِ. فوَاللهِ ما كان بأسرَعَ منْ تصافُحِ الأجْفانِ. حتى خرّ القوْمُ للأذْقان. فلمّا رأيتُهُمْ كأعْجازِ نخْلٍ خاوِيَةٍ. أو كصَرْعى بنتِ خابيَةٍ. علِمْتُ أنّها لإحْدى الكُبَرِ. وأمُّ العِبَرِ. فقلتُ له: يا عُدَيّ نفْسِهِ. وعُبَيْدَ فَلْسِهِ! أعددتَ للقَوْمِ حُلْوى. أم بَلْوى؟ فقال: لمْ أعْدُ خَبيصَ البَنْجِ. في صِحافِ الخلَنْج! فقلتُ: أُقسِمُ بمَنْ أطْلَعَه زُهْراً. وهَدَى بها السّارينَ طُرّاً. لقدْ جِئْتَ شيئاً نُكْراً. وأبقَيْتَ لكَ في المُخزِياتِ ذِكْراً. ثمّ حِرْتُ فِكرةً في صَيّورِ أمِهِ. وخيفَةً منْ عدْوى عرّهِ. حتى طارَتْ نفسي شَعاعاً. وأُرعِدَتْ فَرائِصي ارْتِياعاً. فلمّا رأى استِطارَةَ فرَقي. واسْتِشاطَةَ قلَقي. قال: ما هَذا الفِكْرُ المُرْمِضُ. والرّوْعُ المومِضُ؟ فإنْ يكُنْ فِكرُك في أجْلي. منْ أجْلي. فأنا الآنَ أرتَعُ وأطْفِرُ. وأقوِي هذِهِ البُقْعَةَ مني وأُقفِرُ. وكمْ مثلِها فارَقْتُها وهيَ تصفِرُ. وإنْ يكُنْ نظَراً لنفْسِكَ. وحذَراً منْ حبسِكَ. فتناوَلْ فُضالَةَ الخَبيصِ. وطِبْ نفْسً عنِ القَميصِ. حتى تأمَنَ المُستَعديَ والمُعْديَ. ويتمهّدَ لكَ المُقامُ بعْدي. وإلا فالمفَرَّ المفَرَّ. قبْلَ أن تُسْحَبَ وتُجَرَّ. ثمّ عمَدَ لاستِخْراجِ ما في البيوتِ. منَ الأكْياسِ والتّخوتِ. وجعلَ يستَخْلِصُ خالِصَةَ كلّ مخزونٍ. ونُخبَةَ كلّ مَذْروعٍ وموزونٍ. حتى غادرَ ما ألْغاهُ فخُّهُ. كعظْمٍ استُخرِجَ مُخُّهُ. فلمّا همّنَ ما اصْطَفاهُ ورزَمَ. وشمّرَ عنْ ذِراعَيْهِ وتحزّمَ. أقبَلَ عليّ إقْبالَ منْ لبِسَ الصّفاقَةَ. وخلَعَ الصّداقَةَ. وقال: هلْ لكَ في المُصاحبَةِ إلى البَطيحَةِ. لأزوّجَكَ بأخْرى مَليحَةٍ؟ فأقْسَمْتُ لهُ بالذي جعلَهُ مُبارَكاً أيْنَما كان. ولمْ يجْعَلْهُ ممّنْ خانَ في خانٍ. إنهُ لا قِبَلَ لي بنِكاحِ حُرّتَينِ. ومُعاشَرَةِ ضَرّتَينِ. ثمّ قلتُ لهُ قوْلَ المتطبّعِ بطِباعِهِ. الكائِلِ لهُ بصاعِهِ: قدْ كفَتْني الأولى فخْراً. فاطْلُبْ آخرَ للأخْرى. فتبسّمَ منْ كلامي. ودلَفَ لالْتِزامي. فلوَيْتُ عنهُ عِذاري. وأبدَيْتُ لهُ ازْوِراري. فلمّا بصُرَ بانقِباضي. وتجلّى لهُ إعْراضي. أنشدَ:

 

 

يا صارِفاً عـنّـي الـمـو *** دّةَ والزّمانَ لـهُ صُـروفْ

 

ومُعنّفي في فـضْـحِ مـنْ *** جاورْتُ تعْنيفَ العَسـوفْ

 

لا تلْحِـنـي فـيمـا أتـيْـ *** ـتُ فإنّني بـهـمِ عَـروفْ

 

ولقدْ نزلْـتُ بـهـمْ فـلـمْ *** أرَهُم يُراعونَ الـضّـيوفْ

 

وبلَوْتُـهُـمْ فـوجـدْتُـهُـمْ *** لمّا سـبَـكْـتُـهُـمُ زُيوفْ

 

ما فـيهِـمِ إلا مُـخـــيـ *** ـفٌ إنْ تمكّنَ أو مَـخـوفْ

 

لا بالصّفـيّ ولا الـوَفـيّ *** ولا الحَفيّ ولا العَـطـوفْ

 

فوثبْـتُ فـيهـمْ وثْـبَة الـ *** ذئبِ الضّريّ على الخَروفْ

 

وتركتُهُمْ صرْعـى كـأنـهـ *** ـمْ سُقوا كأسَ الـحُـتـوفْ

 

وتحكّمَتْ في ما اقْـتَـنـوْ *** هُ يَدي وهُمْ رُغْمُ الأنـوفْ

 

ثمّ انْـثَـنَـيْتُ بـمَـغْـنَـمٍ *** حُلْوِ المَجاني والقُـطـوفْ

 

ولَطالَمـا خـلّـفْـتُ مـكْـ *** ـلومَ الحشى خلْفي يطـوفْ

 

ووَتَـرْتُ أرْبـــابَ الأرا *** ئِكِ والدّرانِكِ والسّـجـوفْ

 

ولَكَمْ بلغْـتُ بـحـيلَـتـي *** ما ليسَ يُبلَغُ بـالـسّـيوفْ

 

ووَقفْـتُ فـي هـوْلٍ تُـرا *** عُ الأُسْدُ فيهِ منَ الوقـوفْ

 

ولكَمْ سفكتُ وكمْ فـتـكْـتُ *** وكمْ هتكْتُ حِمـى أَنـوفْ

 

وكَمِ ارْتِـكـاضٍ مـوبِـقٍ *** لي في الذّنوبِ وكم خُفوفْ

 

لكـنّـنـي أعـدَدْتُ حُـسْـ *** ـنَ الظّنّ بالمَوْلى الـرّؤوفْ

 

قال: فلمّا انتهى إلى هذا البيتِ لجّ في الاستِعْبارِ. وألَظَّ بالاستِغْفارِ. حتى اسْتَمالَ هوَى قلْبي المُنحرِفِ. ورجَوْتُ لهُ ما يُرْجى للمُقْتَرِفِ المُعْتَرِفِ. ثمّ إنّهُ غيّضَ دمْعَهُ المُنْهَلّ. وتأبّطَ جِرابَهُ وانْسَلّ. وقال لابنِهِ: احتَمِلِ الباقي. واللهُ الواقي. قال المُخْبِرُ بهذِه الحِكاية: فلمّا رأيتُ انْسِيابَ الحيّةِ والحُيَيّةِ. وانتِهاءَ الدّاء إلى الكَيّةِ. علِمْتُ أن ترَبُّثي بالخانِ. مَجْلَبَةٌ للهَوانِ. فضمَمْتُ رُحَيْلي. وجمَعْتُ للرّحلَةِ ذَيْلي. وبِتُّ ليْلَتي أسْري إلى الطّيبِ. وأحتَسِبُ اللهَ على الخَطيبِ.

===================

مقامات الحريري/المقامة الوبرية

  مقامات الحريري

حكى الحارِثُ بنُ همّامٍ قال: مِلتُ في رَيِّقِ زَماني الذي غبَرَ. إلى مُجاوَرَةِ أهْلِ الوبَرِ. لآخُذَ إخْذَ نُفوسِهِمِ الأبيّةِ. وألسِنَتِهِمِ العربيّةِ. فشمّرْتُ تشْميرَ منْ لا يألو جُهْداً. وجعلْتُ أضرِبُ في الأرضِ غَوْراً ونَجْداً. إلى أنِ اقتَنَيْتُ هَجْمَةً منَ الرّاغِيَةِ. وثَلّةً منَ الثّاغِيَةِ. ثم أوَيتُ إلى عرَبٍ أرْدافِ أقْيالٍ. وأبناءِ أقوالٍ. فأوْطَنوني أمنَعَ جَنابٍ. وفلّوا عنّي حدّ كُلّ نابٍ. فما تأوّبَني عندَهُم همٌّ. ولا قرَعَ صَفاتيَ سهْمٌ. إلى أنْ أضْلَلْتُ في ليلَةٍ مُنيرةِ البدْرِ. لَقْحةً غَزيرَةَ الدَّرّ. فلمْ أطِبْ نفْساً بإلْغاء طلَبِها. وإلْقاءِ حبْلِها على غارِبِها. فتدثّرْتُ فرَساً مِحْضاراً. واعتقلْتُ لَدْناً خطّاراً. وسرَيْتُ ليْلَتي جمْعاءَ. أجوبُ البَيداءَ. وأقْتَري كلَّ شجْراء ومَرْداء. إلى أن نشرَ الصّبْحُ راياتِهِ. وحَيْعَلَ الدّاعي إلى صَلاتِهِ. فنزَلْتُ عنْ متْنِ الرَّكوبَةِ. لأداء المكْتوبَةِ. ثمّ حُلْتُ في صهْوَتِها. وفرَرْتُ عنْ شحْوَتِها. وسِرْتُ لا أرى أثَراً إلا قفَوْتُهُ. ولا نشَزاً إلا علَوْتُهُ. ولا وادِياً إلا جزَعْتُهُ. ولا راكِباً إلا استَطْلَعْتُهُ. وجِدّي مع ذلِكَ يذهَبُ هدَراً. ولا يجِدُ وِرْدُهُ صدَراً. إلى أن حانَتْ صَكّةُ عُمَيٍّ. ولفْحُ هَجيرٍ يُذْهِلُ غَيْلانَ عنْ مَيٍّ. وكان يوْماً أطْوَلَ من ظِلّ القَناةِ. وأحَرَّ منْ دمْعِ المِقْلاتِ. فأيقَنْتُ أني إنْ لمْ أستَكِنّ منَ الوَقْدَةِ. وأستَجِمّ بالرّقْدَةِ. أدْنَفَني اللُّغوبُ. وعلِقَتْ بي شَعوبُ. فعُجْتُ إلى سرْحَةٍ كَثيفَةِ الأغصانِ. وريقَةِ الأفْنانِ. لأغَوّرَ تحْتَها إلى المُغَيرِبانِ. فوَاللهِ ما اسْتَرْوَحَ نفَسي. ولا اسْتَراحَ فرَسي. حتى نظَرْتُ إلى سانِحٍ. في هيئَةِ سائِحٍ. وهوَ ينتَجِعُ نُجْعَتي. ويشتَدّ إلى بُقعَتي. فكرِهْتُ انْعِياجَهُ إلى مَعاجي. فاستعَذْتُ باللهِ منْ شرّ كُلّ مُفاجي. ثمّ ترجّيْتُ أن يتصدّى مُنشِداً. أو يتبدّى مُرشِداً. فلمّا اقترَبَ منْ سرْحَتي. وكادَ يحِلّ بساحَتي. ألفَيْتُهُ شيخَنا السَّروجيَّ مُتّشِحاً بجِرابثهِ. ومُضْطَغِناً أُهْبَةَ تَجْوابِهِ. فآنسَني إذْ وردَ. وأنْساني ما شرَدَ. ثمّ استَوْضَحْتُهُ منْ أينَ أثَرُهُ. وكيفَ عُجَرُهُ وبُجَرُهُ؟ فأنشَدَ بَديهاً. ولمْ يَقُلْ إيهاً:

 

 

قُلْ لمُستَطلِـعٍ دَخـيلَةَ أمـري *** لكَ عِنـدي كَـرامَةً وعَـزازَهْ

 

أنا ما بينَ جوْبِ أرضٍ فـأرْضٍ *** وسُرًى في مَفازَةٍ فـمَـفـازَهْ

 

 

زادِيَ الصّيدُ والمَطيّةُ نـعْـلـي *** وجَهازِي الجِرابُ والعُـكّـازَهْ

 

فإذا ما هبَطْتُ مِصْراً فبَـيْتـي *** غُرفَةُ الخانِ والنّـديمُ جُـزارَهْ

 

ليسَ لي ما أُساءُ إنْ فاتَ أوْ أحـ *** ـزَنُ إنْ حاولَ الزّمانُ ابتِـزازَهْ

 

غيرَ أني أبيتُ خِلْـواً مـنَ الـهـ *** ـمّ ونَفْسي عنِ الأسى مُنْحـازَهْ


أرْقُدُ الليلَ مِلْءَ جَفْني وقَلْـبـي *** بارِدٌ مـنْ حَـرارةٍ وحَـزازَهْ

 

لا أُبالي منْ أيّ كـأسٍ تـفـوّقْـ *** ـتُ ولا ما حَلاوَةٌ مـنْ مَـزازَهْ


لا ولا أستَجيزُ أن أجـعَـلَ الـذ *** لّ مَجازاً إلى تسَـنّـي إجـازَهْ

وإذا مطْلَبٌ كسـا حُـلّةَ الـعـا *** رِ فبُعْداً لمَـنْ يَرومُ نَـجـازَهْ

ومتى اهتزّ للـدّنـاءةِ نِـكْـسٌ *** عافَ طبْعي طِباعَهُ واهتِـزازَهْ

 

فالمَـنـايا ولا الـدّنـايا وخـيْرٌ *** من رُكوبِ الخَنا رُكوبُ الجِنازَهْ

 

ثم رفعَ إليّ طَرْفَهُ. وقال: لأمْرٍ ما جدَعَ قَصيرٌ أنفَهُ. فأخبَرْتُهُ خبرَ ناقَتي السّارِحةِ. وما عانَيْتُهُ في يومي والبارِحَةِ. فقال: دعِ الالْتِفاتَ. إلى ما فاتَ. والطِّماحَ. إلى ما طاحَ. ولا تأسَ على ما ذهبَ. ولوْ أنهُ وادٍ منْ ذهبٍ. ولا تستَمِلْ مَنْ مالَ عنْ ريحِكَ. وأضْرَمَ نارَ تَباريحِكَ. ولوْ كان ابنَ بوحِكَ. أوْ شَقيقَ روحِكَ. ثمّ قال: هلْ لكَ في أن تَقيلَ. وتتحامَى القالَ والقيلَ؟ فإنّ الأبْدانَ أنْضاءُ تعَبٍ. والهاجِرَةَ ذاتُ لهَبٍ. ولنْ يصْقُلَ الخاطِرَ. ويُنشّطَ الفاتِرَ. كقائِلَةِ الهَواجِرِ. وخُصوصاً في شهْرَيْ ناجِرٍ. فقلتُ: ذاكَ إليْكَ. وما أُريدُ أنْ أشُقّ علَيْكَ. فافتَرَشَ التُّرْبَ واضْطجَعَ. وأظْهَرَ أنْ قدْ هجَع. وارتَفَقْتُ على أن أحرُسَ. ولا أنْعَسَ. فأخَذَتْني السِّنَةُ. إذْ زُمّتِ الألسِنَةُ. فلمْ أُفِقْ إلا والليلُ قد تولّجَ. والنّجْمُ قد تبلّجَ. ولا السّروجيّ ولا المُسرَجَ. فبِتُّ بلَيلَةٍ نابِغيّةٍ. وأحْزانٍ يَعقوبيّةٍ. أُساوِرُ الوُجومَ. وأُساهِرُ النّجومَ. أفكّرُ تارَةً في رُجْلَتي. وأخْرى في رَجْعَتي. إلى أنْ وضَحَ لي عِندَ افتِرارِ ثغْرِ الضّوّ. في وجْهِ الجوّ. راكِبٌ يخِدُ في الدّوّ. فألْمَعْتُ إليْهِ بثَوْبي. ورجوْتُ أن يُعَرّجَ إلى صوْبي. فلمْ يعْبأ بإلْماعي. ولا أوى لالْتِياعي. بلْ سارَ على هَيْنَتِهِ. وأصْماني بسهْمِ إهانَتِهِ. فأوفَضْتُ إلَيْهِ لأستَرْدِفَه. وأحْتَمِلَ تغطْرُفَهُ. فلمّا أدرَكْتُهُ بعْدَ الأينِ. وأجَلْتُ فيهِ مسْرَحَ العينِ. وجدْتُ ناقَتي مَطيّتَهُ. وضالّتي لُقطتَهُ. فما كذّبتُ أنْ أذْرَيْتُهُ عن سَنامِها. وجاذَبْتُهُ طرَفَ زِمامِها. وقلتُ لهُ: أنا صاحِبُها ومُضِلُّها. ولي رِسلُها ونسْلُها. فلا تكُنْ كأشْعَبَ. فتُتْعِبَ وتَتْعَبَ. فأخذَ يلْدَغُ ويَصْئي. ويتّقِحُ ولا يَستَحْيي. وبَيْنا هوَ ينْزو ويَلينُ. ويستَأسِدُ ويسْتَكينُ. إذْ غَشينا أبو زيْدٍ لابِساً جِلدَ النّمِرِ. وهاجِماً هُجومَ السّيلِ المُنهَمِرِ. فخِفْتُ واللهِ أنْ يكونَ يومُهُ كأمْسِهِ. وبدرُهُ مثلَ شمْسِهِ. فألحَقَ بالقارِظَينِ. وأصيرَ خبَراً بعْدَ عَينٍ. فلمْ أرَ إلا أنْ أذكَرْتُهُ العُهودَ المنسيّةَ. والفَعْلَةَ الإمْسيّةَ. وناشَدْتُهُ اللهَ. أوافَى للتّلافي. أمْ لِما فيهِ إتْلافي. فقال: مَعاذَ اللهِ أنْ أُجهِزَ على مَكْلومي. أو أصِلَ حَروري بسَمومي! بلْ وافَيْتُكَ لأخْبُرَ كُنْهَ حالِكَ. وأكونَ يَميناً لشِمالِكَ. فسكَنَ عندَ ذلِك جاشِي. وانْجابَ استِيحاشي. وأطلَعْتُهُ طِلْعَ اللِّقْحَةِ. وتبَرْقُعَ صاحِبي بالقِحَةِ. فنظَرَ إلَيْهِ نظرَ ليْثِ العِرّيسَةِ. إلى الفَريسَةِ. ثمّ أشْرَعَ قِبَلَهُ الرّمْحَ. وأقْسَمَ لهُ بمَنْ أنارَ الصبْحَ. لَئِنْ لمْ ينْجُ مَنْجَى الذُّبابِ. ويرْضَ منَ الغَنيمَةِ بالإيابِ. لَيورِدَنّ سِنانَهُ وَريدَهُ. ولَيَفْجَعَنّ بهِ وَليدَهُ ووَديدَهُ. فنبَذَ زِمامَ النآقَةِ وحاصَ. وأفلَتَ ولهُ حُصاصٌ. فقال لي أبو زيدٍ: تسَلّمْها وتسَنّمْها. فإنّها إحْدى الحُسْنَيَينِ. ووَيْلٌ أهوَنُ من وَيْلَينِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فحِرْتُ بينَ لوْمِ أبي زيدٍ وشُكْرِهِ. وزِنَةِ نفْعِهِ بضُرّهِ. فكأنّهُ نوجِيَ بذاتِ صدْري. أو تكهّنَ ما خامَرَ سِرّي. فقابلَني بوجْهٍ طَليقٍ. وأنشدَ بلِسانٍ ذَليقٍ:

 

 

يا أخي الحامِلَ ضَيْمـي *** دونَ إخْواني وقوْمـي

 

إنْ يكُنْ ساءكَ أمْسـي *** فلقَـدْ سـرّكَ يوْمـي

 

فاغْتَـفِـرْ ذاكَ لِـهـذا *** واطّرِحْ شكري ولوْمي

 

ثمّ قال: أنا تَئِقٌ. وأنتَ مَئِقٌ. فكيْفَ نتّفِقُ؟ وولّى يفْري أديم الأرضِ. ويرْكُضُ طِرْفَهُ أيّما رَكْضٍ. فما عدَوْتُ أنِ اقْتَعَدْتُ مَطيّتي. وعُدْتُ لطِيّتي. حتى وصلْتُ إلى حِلّتي. بعدَ اللّتَيّا والتي.